04 نوفمبر 2024
إعادة إحياء الشرق الأوسط "الجديد"
تحمل التطورات الجارية على المستوى الإقليمي بوادر رياح جديدة، قد تغير تركيبة، النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وربما خصائصه. الملمح الأهم في تلك الرياح الجديدة أنها تُذكِّر برياح سابقة هبّت قبل عقدين، كانت تحمل أطروحاتٍ للتعاون الإقليمي، واكبت تدشين مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في تسعينيات القرن الماضي. والتي جرت محاولاتٌ لتأطيرها في عدة صيغ، منها الشرق الأوسط "الجديد" والشرق الأوسط "الكبير" أو "الموسّع". الفارق الأساس، فيما تشير إليه التحركات الجارية حالياً، أن الصيغ السابقة تستند إلى هدف تحقيق تنمية اقتصادية، من خلال تعاون إقليمي. وتنطلق من ذلك نحو دمج إسرائيل في المنطقة، وإقامة منظومة تعاون إقليمي جماعي، تكون هذه جزءاً منه. بينما تبدأ التحرّكات الجديدة من وجود تحدّياتٍ وتهديداتٍ مشتركة، تجمع دولاً في المنطقة ومن خارجها. أي أن الصيغ السابقة للشرق الأوسط الموسّع أو الكبير كانت فلسفتها تعاونيةً تجميعيةً، ترفع شعار تحقيق الأفضل. بينما ما تشير إليه التحرّكات الراهنة يبدو، في جوهره، استنفاراً دفاعياً لمواجهة السيئ، أو ربما الأسوأ.
يتبدّى ذلك بوضوح في مساعي تسوية بعض الملفات، لحلحلة التأزم الإقليمي، وتهيئة الأجواء لتحالفاتٍ إقليميةٍ، تتجاوز الاختلافات المرتبطة بالأزمات الراهنة. وتواجه تحدياتٍ متنوعةٍ، تشمل انتشار العنف في المنطقة وخارجها، والطموح الإقليمي الإيراني. وتداعيات الاضطرابات الداخلية، مثل تدفق اللاجئين وتهريب السلاح وانتقال المسلحين، وتنازع موارد الطاقة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات تحريك قضية قبرص، وأفكار استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتعدّد منظومات تسوية أو إدارة الملف السوري (جنيف/ أستانة/ أصدقاء سورية) وكذلك الملف الليبي (اتفاق الصخيرات/ دول الجوار/ الرباعية الدولية). وفي المقابل، يجيء التصعيد الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. وتحفز إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد إيران، فضلاً عن الحضور الروسي المتزايد في ملفات المنطقة وقضاياها، سياسياً وعسكرياً.
تشير تلك الحزم المتوازية من المستجدات والتحركات، بوضوح، إلى أن ثمة إعادة تشكيل
للنظام الإقليمي، وأن ترتيبات جديدة تنتظر المنطقة في المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.
ويمكن رصد ظواهر وخصائص مصاحبة لذلك الوضع الإقليمي الجديد، الجاري التحضير له، في مقدمتها تغير أولويات المصالح والتهديدات الإقليمية، حيث لم يعد العمل العربي المشترك، أو تطوير العلاقات والروابط العربية- العربية، يمثل أولوية لمعظم، إن لم يكن كل، الدول العربية. كما تراجعت أولوية الصراع العربي الإسرائيلي حتى لدى الدول المعنية به مباشرة، بما فيها التي كان يطلق عليها "دول الطوق". وفي المقابل، تتقدّم أولوية القضايا العابرة للحدود، خصوصاً انتشار ظاهرة العنف المسلح، سواء بواسطة تنظيمات ومجموعات أو بواسطة أفراد.
الظاهرة الثانية الملفتة فيما تشهده المنطقة من مستجدّات هي عودة الاستقطاب المذهبي، القائم فعلياً منذ بدايات الألفية الثالثة، لكنه توارى قليلاً بضعة أعوام. كان يتركز خلالها في التفاعلات الداخلية والعلاقات المجتمعية داخل بعض الدول التي تتسم بالتنوع المذهبي والديمغرافي بشكل عام. وكان لكل منها خصوصية محكومة بطبيعة التركيبة المجتمعية. بمعنى أن البعد الإقليمي أو الخارجي في ذلك الانقسام كان حاضراً، لكن على استحياء وبشكل محدود. وكان الدور الخارجي في الانقسام المذهبي استجابةً لمحركات داخلية بالأساس. بينما، في الوضع الراهن، صار الانقسام إقليمياً أكثر منه داخليا. وتجلت انعكاساته في تدخلاتٍ عسكرية وسياسية مباشرة، يمتزج فيها المذهبي بالسياسي. كما يتضح في تدخل حزب الله وجماعات شيعية مسلحة موالية لإيران في الأزمة السورية، والدور الإيراني في اليمن، والاحتقان المذهبي الكامن في القوس الشمالي المأزوم، الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسورية.
بالتوازي مع تلك التحولات، تجري على قدم وساق عملية تسليم للأدوار ونطاقات النفوذ الإقليمية الخاصة بالقوى الكبرى واستلامها، فقد تصدرت الولايات المتحدة الأميركية القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط ثلاثة عقود متصلة، كانت خلالها تنفرد تقريباً بدور "الراعي الرسمي" لمجمل قضايا المنطقة وتطوراتها. أخذت واشنطن، في الأعوام الثلاثة الماضية، ترفع يدها عن المنطقة تدريجياً، ما أتاح الفرصة أمام روسيا لتملأ ذلك الفراغ بسرعة وديناميكية. وبعد أن صارت الفاعل الرئيس في الملف السوري، بقبول أميركي، فإن موسكو تتجه حالياً إلى ملفات وأزمات أخرى، مثل ليبيا واليمن، لتثبت أنها تقترب كثيراً من الحلول محل الولايات المتحدة في موقع القوة العالمية المهيمنة على الشرق الأوسط.
النتيجة المنطقية المترتبة على ما سبق أن تشهد المنطقة منظومة تحالفات ومحاور إقليمية،
تجسد تلك الموجة من التغيرات، إلا أن التحالفات الجاري تشكيلها ليست مختلفة كلياً عن التي كانت سائدةً حتى سنوات قليلة مضت، وتوزعت بشكل أساسي بين جناحين، أطلق أولهما على أعضائه وصف "المقاومة والممانعة"، بينما تبنى الثاني مصطلح "الاعتدال" تعريفاً للدول المنضوية فيه. والمهم في هذا التقسيم أنه تمحور، بالدرجة الأولى، حول الموقف من إسرائيل، سواء لجهة العلاقة المباشرة معها، أو إزاء مجمل طريقة إدارة الصراع معها. وانبثق من هذا الاستقطاب الأساسي محاور انقسام فرعية، شملت الموقف من تنظيمات والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وجماعاتها، خصوصاً ذات المرجعية الإسلامية. وساعد في ذلك رفع شعار الجهاد، واعتبار تحرير القدس غاية إسلامية، بواسطة دول وتنظيمات يجمع بينها اتساق مذهبي. الأمر الذي أوجد ظلالاً مذهبية لحالة الاستقطاب في النظام الإقليمي للشرق الأوسط.
أما في الشرق الأوسط "الجديد" الذي يبدو تبلوره قريباً، فلم يعد خافياً أن ثمّة أولويات مشتركة بين إسرائيل ودول عربية كثيرة. لذا، لن يكون مفاجئاً أن تصبح إسرائيل شريكاً أصيلاً في أحد التحالفات الإقليمية الجديدة، أو بعضها، علناً أو بغير إعلان. وفي ذلك منعطف تاريخي أكثر من خطير بكل المعايير السياسية والأخلاقية، ما يجعله جديراً بالتناول لاحقاً في حديث مستقل.
يتبدّى ذلك بوضوح في مساعي تسوية بعض الملفات، لحلحلة التأزم الإقليمي، وتهيئة الأجواء لتحالفاتٍ إقليميةٍ، تتجاوز الاختلافات المرتبطة بالأزمات الراهنة. وتواجه تحدياتٍ متنوعةٍ، تشمل انتشار العنف في المنطقة وخارجها، والطموح الإقليمي الإيراني. وتداعيات الاضطرابات الداخلية، مثل تدفق اللاجئين وتهريب السلاح وانتقال المسلحين، وتنازع موارد الطاقة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات تحريك قضية قبرص، وأفكار استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتعدّد منظومات تسوية أو إدارة الملف السوري (جنيف/ أستانة/ أصدقاء سورية) وكذلك الملف الليبي (اتفاق الصخيرات/ دول الجوار/ الرباعية الدولية). وفي المقابل، يجيء التصعيد الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. وتحفز إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد إيران، فضلاً عن الحضور الروسي المتزايد في ملفات المنطقة وقضاياها، سياسياً وعسكرياً.
تشير تلك الحزم المتوازية من المستجدات والتحركات، بوضوح، إلى أن ثمة إعادة تشكيل
ويمكن رصد ظواهر وخصائص مصاحبة لذلك الوضع الإقليمي الجديد، الجاري التحضير له، في مقدمتها تغير أولويات المصالح والتهديدات الإقليمية، حيث لم يعد العمل العربي المشترك، أو تطوير العلاقات والروابط العربية- العربية، يمثل أولوية لمعظم، إن لم يكن كل، الدول العربية. كما تراجعت أولوية الصراع العربي الإسرائيلي حتى لدى الدول المعنية به مباشرة، بما فيها التي كان يطلق عليها "دول الطوق". وفي المقابل، تتقدّم أولوية القضايا العابرة للحدود، خصوصاً انتشار ظاهرة العنف المسلح، سواء بواسطة تنظيمات ومجموعات أو بواسطة أفراد.
الظاهرة الثانية الملفتة فيما تشهده المنطقة من مستجدّات هي عودة الاستقطاب المذهبي، القائم فعلياً منذ بدايات الألفية الثالثة، لكنه توارى قليلاً بضعة أعوام. كان يتركز خلالها في التفاعلات الداخلية والعلاقات المجتمعية داخل بعض الدول التي تتسم بالتنوع المذهبي والديمغرافي بشكل عام. وكان لكل منها خصوصية محكومة بطبيعة التركيبة المجتمعية. بمعنى أن البعد الإقليمي أو الخارجي في ذلك الانقسام كان حاضراً، لكن على استحياء وبشكل محدود. وكان الدور الخارجي في الانقسام المذهبي استجابةً لمحركات داخلية بالأساس. بينما، في الوضع الراهن، صار الانقسام إقليمياً أكثر منه داخليا. وتجلت انعكاساته في تدخلاتٍ عسكرية وسياسية مباشرة، يمتزج فيها المذهبي بالسياسي. كما يتضح في تدخل حزب الله وجماعات شيعية مسلحة موالية لإيران في الأزمة السورية، والدور الإيراني في اليمن، والاحتقان المذهبي الكامن في القوس الشمالي المأزوم، الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسورية.
بالتوازي مع تلك التحولات، تجري على قدم وساق عملية تسليم للأدوار ونطاقات النفوذ الإقليمية الخاصة بالقوى الكبرى واستلامها، فقد تصدرت الولايات المتحدة الأميركية القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط ثلاثة عقود متصلة، كانت خلالها تنفرد تقريباً بدور "الراعي الرسمي" لمجمل قضايا المنطقة وتطوراتها. أخذت واشنطن، في الأعوام الثلاثة الماضية، ترفع يدها عن المنطقة تدريجياً، ما أتاح الفرصة أمام روسيا لتملأ ذلك الفراغ بسرعة وديناميكية. وبعد أن صارت الفاعل الرئيس في الملف السوري، بقبول أميركي، فإن موسكو تتجه حالياً إلى ملفات وأزمات أخرى، مثل ليبيا واليمن، لتثبت أنها تقترب كثيراً من الحلول محل الولايات المتحدة في موقع القوة العالمية المهيمنة على الشرق الأوسط.
النتيجة المنطقية المترتبة على ما سبق أن تشهد المنطقة منظومة تحالفات ومحاور إقليمية،
أما في الشرق الأوسط "الجديد" الذي يبدو تبلوره قريباً، فلم يعد خافياً أن ثمّة أولويات مشتركة بين إسرائيل ودول عربية كثيرة. لذا، لن يكون مفاجئاً أن تصبح إسرائيل شريكاً أصيلاً في أحد التحالفات الإقليمية الجديدة، أو بعضها، علناً أو بغير إعلان. وفي ذلك منعطف تاريخي أكثر من خطير بكل المعايير السياسية والأخلاقية، ما يجعله جديراً بالتناول لاحقاً في حديث مستقل.