إصرار السلطة الفلسطينية على السقوط في الحفرة نفسها
"ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعده" من أكثر العبارات تردّداً في الآونة الأخيرة. إذ يمكن تعميمها على كلّ شيءٍ باستثناء أداء السلطة الفلسطينية الوظيفية ودورها، فالأخيرة ماضيةٌ في طريقها ذاته، وكأنّها تتعمّد السقوط مراراً وتكراراً في الحفرة ذاتها من دون أن تتعلّم من دروسها السابقة، بل أكثر من ذلك، تبدو السلطة الفلسطينية بعد "طوفان الأقصى" وكأنّها تلتقط فرصةً نادرةً لتعميق الحفرة التي وقعت فيها مراراً وتكراراً، ربّما بغرض الاستقرار لاحقاً في قعر تلك الحفرة إلى أبد الآبدين.
نجد عشرات الدلائل والمُؤشّرات على سلوك السلطة هذا، من تصريحات كبار قادتها، إلى ممارساتها المُشينة في حقّ المواطنين الفلسطينيين في المناطق التي تنشط أجهزتها الأمنية فيها. إذ لا تدع أجهزة السلطة الأمنية فرصةً لاعتقال الناشطين السلميين المُعارِضين لنهجها الاستسلامي، أو حتّى المُعارِضين لسلوكياتها القمعية وفسادها المُستشري، فضلاً عن اعتقالها الفدائيين والمقاومين من التوجّهات والمشارب السياسية كلّها، وطبعاً من المناطق كلّها التي تصل إليها أذرعها الأمنية. بهذه السلوكيات والممارسات، تُؤكّد السلطة الحقيقة التي يتهرّب بعضهم من إعلانها، المُتمثّلة في أنّ السلطة الفلسطينية هي "سلطة أمر واقع لا أكثر ولا أقلّ، تمارس استبداداً موصوفاً في حقّ الفلسطينيين كلّهم، فضلاً عن دورها الأمني في حماية الاحتلال وتثبيته".
من هنا، يعتقد كاتب هذه السطور أنّ الحوار مع السلطة ورموزها، تحت شعار الوحدة الوطنية، ليس مضيعةً للوقت فقط، بل حرفاً لمسار الوحدة الوطنية، إذ لا يمكن خطّ مسارٍ وحدوي مع سلطةٍ وظيفيةٍ تخدم الاحتلال وداعميه، إذ يجب القطيعة الكلّية معها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً واجتماعياً وثقافياً. طبعاً، قد يقول بعضهم إنّ ذلك شبه مستحيل، نظراً إلى دور السلطة الاجتماعي في تنظيم الشؤون الحياتية اليوميّة، هنا لا بُدّ من الإشارة إلى أن تلك الأدوار الضرورية لاستمرار الحياة هي جانبٌ تنظيميٌ لا يمنح السلطة غطاءً سياسياً وثقافياً واقتصادياً لاستمرار دورها الوظيفي. إذ يحفل التاريخ البشري بأنماطٍ متعدّدةٍ من سلطات الأمر الواقع، التي تمارس، خدمةً لمصالحها الذاتية، أدواراً تنظيميةً مُتعدّدةً لصالح شعوب المنطقة التي تفرض هيمنتها عليها، أو ولايتها. لكن، ورغم ذلك لطالما قاطعت الشعوب المُحتلّة، والخاضعة لسلطات الأمر الواقع، تلك السلطات من دون أن ينسحب ذلك على مقاطعة حقوقهم الأساسية التي تنظّمها سلطات الأمر الواقع قسراً. وعليه، لا تعني مقاطعة سلطات الأمر الواقع بأيّ شكلٍ عدم تلقّي تلك الخدمات، بل تعني نبذ التعامل مع السلطة ذاتها، سواء أذرعها الأمنية، أو مؤسّساتها الاقتصادية، والأكثر أهمّية السياسية منها. كما يمكن الحدُّ من دور تلك السلطات التنظيمي من خلال بناء لجانٍ محلّيةٍ تنظيميةٍ أو من خلال المجالس البلدية إن أمكن، التي تنظمّ شؤون السكان اليومية، من حلّ النزاعات والبتّ فيها، إلى إدارة الشؤون الخدمية والتنظيمية، وصولاً إلى التوثيق، الأمر الذي يقلّل من دور دوائر السلطة الاجتماعية والقضائية، كما ينمّي من القدرات التنظيمية المحلّية.
الحوار مع السلطة ورموزها، تحت شعار الوحدة الوطنية، ليس مضيعةً للوقت فقط، بل حرفاً لمسار الوحدة الوطنية
مرّ الشعب الفلسطيني بتجارب تاريخيةٍ عدّة فُرِضَ عليه في حالاتٍ كثيرةٍ منها التعاملُ مع سلطات الأمر الواقع المُسيطِرة، من الاحتلال/ الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الصهيوني ذاته، فضلاً عن محاولات الاحتلال الصهيوني فرض مشروع روابط القرى بعد نكسة 1967. لم يخضع الشعب الفلسطيني في تلك التجارب كلّها، وفي سواها، إلى سلطات الأمر الواقع، بل قاومها وواجهها سياسياً وميدانياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً واجتماعياً، إذ فُرِضَت أنماطٌ متعدّدةٌ للمقاطعة منها المقاطعة الاجتماعية للمتعاونين مع سلطات الأمر الواقع، سواء كانت قوى الاحتلال ذاته أو قوى محلّية وظيفية مرتبطة بالاحتلال وداعميه. الجدير بذكره هنا، أنّه في تجربة مقاومة مشروع روابط القرى، سابق الذكر، اعتُبِر الفعلُ المقاوم ذاته، بأنماطه العنيفة والسلمية كلّها، جزءاً من مجمل المشروع المقاوم التحرّري، الذي يقاوم الاحتلال ذاته، نظراً إلى طبيعة روابط القرى الوظيفية في خدمة الاحتلال وحمايته وإدامته. وعليه، لم يُعتبَر الفعلُ المقاوم لمشروع روابط القرى بمثابة صراعٍ ثانوي يحرف البوصلة عن الصراع المركزي في مجابهة الاحتلال، بل كان في صلبه. كذلك، نجد في مرحلة مقاومة مشروع روابط القرى سعياً صهيونياً للاستبدال بهياكل منظّمة التحرير، بما تمثّله من مجموعةٍ من القوى والفصائل الفلسطينية التي تقود مشروع التحرّر الفلسطيني، هياكلَ أخرى عميلة وتابعة للاحتلال، تخدمه وتحافظ على بقائه. في حين نلحظ اليوم هيمنةَ السلطة الوظيفية على دوائر منظّمة التحرير الفلسطينية وسيطرتها الكلّية عليها، ما يعني نجاح الاحتلال في إفراغ المنظّمة من مضمونها وجوهرها، واستبداله بجوهر مشروع روابط القرى ممثّلاً بالسلطة الوظيفية الفلسطينية. من هنا، لم تعد السلطة مُجرّد سلطة أمر واقعٍ فقط، بل هي مشروعٌ صهيونيٌ أميركيٌ لخدمة الاحتلال وداعميه، ولإدامة المشروع الصهيوني في أرض فلسطين.
نلحظ اليوم هيمنةَ السلطة الفلسطينية الوظيفية على دوائر منظّمة التحرير ما يعني نجاح الاحتلال في إفراغ المنظّمة من مضمونها وجوهرها
ليس من المُستغرَب إصرار السلطة على السقوط في الحفرة ذاتها، مراراً وتكراراً، فهي سلطةٌ موجّهةٌ ومدارةٌ عبر الاحتلال وداعميه، لا تملك قرارها وخيارها، تسير في مسارٍ وحيدٍ رسم لها منذ يومها الأول، وهو ما يُفسِّر فشل زعيمها الراحل ياسر عرفات في محاولاته تغيير مسارها بعد الانتفاضة الثانية، بل يعتقد كاتب هذه السطور أنّ المُستغرَب اليوم أن يستغرب بعضنا من سلوكيات السلطة بعد "طوفان الأقصى"، وترويج آخرين إمكانية عودتها عن ضلالها، وقدرتها في إصلاح ذاتها، وتوقّعهم نتائج مختلفة لدعوتهم قادتها إلى تبني نهج مختلف يجبر الانقسام الفلسطيني، ويُوحّد الصف، ويقود النضال التحرّري الفلسطيني، لأنّ السلطة من حيث بنيتها وهياكلها وجوهرها نقيضٌ كاملٌ لمشروع التحرّر الفلسطيني.
ما يُؤكّد ذلك انخراط السلطة في ما يعرف إعلامياً وأميركياً بـ"الرؤية الأميركية لليوم التالي لحرب غزّة"، تلك الرؤية التي تعيد نهج "أوسلو"، ونهج الاستسلام من دون أيّ تغييرٍ يذكر، أو بالأصح، تُعزّزه بخطواتٍ أكثر استسلامية وانهزامية من السلطة طبعاً، لصالح تعزيزٍ إضافي للاحتلال وسيطرته، وتحكّمه بمفاصل حياة الفلسطينيين كلّها. إذ تتضمّن الخطّة نزع السلاح الفلسطيني تطبيقاً لمبدأ أحادية التسلّح الصهيوني، والتفاوض هو المسار الوحيد لحلّ القضية الفلسطينية، وفق الرؤية الصهيونية بعيداً عن القرارات الدولية، وحدّه الأقصى "حلّ الدولتَين" على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، بما يشمل تبادلاتٍ مُتَّفقا عليها بين الطرفَين (!) فضلاً عن قبول السلطة بالتفاوض بشأن حلّ عادل ومُتَّفق عليه للاجئين الفلسطينيين (!)
من ذلك كلّه، وبعد "طوفان الأقصى"، أصبح على الفلسطينيين مواجهة واقعهم الحالي من دون تردّدٍ، وفي مُقدّمته مواجهة سلطة الأمر الواقع الوظيفية، فيما دون ذلك لا مَفرّ من السقوط في حفرةٍ جديدةٍ تحاكي حُفرة "أوسلو" (1993)، بيد أنّها حفرةٌ أعمق وأصعب بكثير.