إشراك الفلسطينيين في السيناريوهات المحتملة
نشرت صحيفة وموقع العربي الجديد، الاثنين الماضي؛ 7/8/2023، تقريرًا يرصد ما نشرته صحيفة يسرائيل هيوم عن الحرب المحتملة المقبلة، بعنوان "سيناريو إسرائيلي للمواجهة المقبلة مع حزب الله والفلسطينيين: 5000 قتيل وآلاف الجرحى"، يعرض تداعيات الحرب المحتملة مع حزب الله على الاحتلال ومجتمعه، من تدمير المنازل كلّيًا أو جزئيًا، إلى استهداف البنى التحتية، بما فيها النظام الكهربائي، وصولاً إلى إغلاق الموانئ. كما يشير التقرير إلى إمكانية تلقّي الاحتلال قرابة ستة آلاف صاروخ في اليوم الأول للحرب، وبين 1500-2000 صاروخ في الأيّام اللاحقة، وهو عددٌ لن تتمكّن؛ وفق الصحيفة الصهيونية، منظومة "القبّة الحديدية" من التصدّي لمعظمها. كذلك تتحدّث الصحيفة عن الخسائر البشرية التي قدّرها التقرير بخمسة آلاف قتيلٍ من خارج المؤسسة العسكرية. وأخيرًا، لا يغفل التقرير عن التنبؤ بامتناع قسمٍ كبيرٍ من فلسطينيي الداخل عن أداء أعمالهم اليومية، التي يعدّ قسمٌ كبيرٌ منها ضمن القطاعات الحيوية صهيونيًا.
يسعى هذا المقال إلى الإضاءة على أهمّية إشراك الفلسطينيين في سيناريوهات المواجهة المحتملة مع الاحتلال، بنموذج يشابه السياق الذي أعد فيه تقرير "يسرائيل هيوم" الذي يخاطب قاعدة الاحتلال الاجتماعية، محذرًا أولاً من احتمالية حدوث هذه الحرب الخطيرة؛ وفق وصفه، وشارحًا ثانيًا تداعيات الحرب على الاحتلال ومجتمعه وبناه وقدراته العسكرية والأمنية والاقتصادية واللوجستية، ومعللاً ثالثًا سياسة ردّ الفعل المعتدل التي تتبعها حكومة الاحتلال الحالية تجاه استفزازات حزب الله المتكرّرة، ومؤكّدًا رابعًا على قوّة جيش الاحتلال، وعن استعداده لخوض هذه الحرب في أيّ وقتٍ.
تتجنّب الفصائل الفلسطينية أيّ إشارةٍ إلى تداعيات التصدّي لقوات الاحتلال على شعب فلسطين وأرضها، باستثناء تقارير إعلامية عن هول الجرائم الصهيونية
تكشف مقارنة تقرير الصحيفة الصهيونية مع خطاب الفصائل والقوى الفلسطينية تاريخيًا وراهنًا عن عيوبٍ كثيرةٍ لدى الأخيرة، فعادةً ما تنتهج الفصائل الفلسطينية نهجًا تحريضًا وبلاغيًا، يقزّم من قدرات العدوّ، ويهول من قدراتها الذاتية، وكأنّنا قاب قوسين أو أدنى من التحرير الكامل والشامل، أو حسب تعبير بعضهم "من النصر الساحق والماحق". كما تتجنّب الفصائل الفلسطينية أيّ إشارةٍ إلى تداعيات التصدّي لقوات الاحتلال على شعب فلسطين وأرضها، باستثناء تقارير إعلامية عن هول الجرائم الصهيونية، وكأنّ الفصائل تتعمّد استثناء هذه التداعيات من حساباتها العملياتية، كما تستثني حقّ شعب فلسطين في فهم كيفيّة صنع القرار السياسي والعسكري فلسطينيًا، محدّدةً دور حاضنتها الشعبية في تأييد ممارساتها وسياساتها المتّبعة فقط، مقاومةً كانت أم معتدلةً أم استسلاميهً، كما في حالة قيادة حركة فتح الراهنة؛ وربّما يصح القول السابقة أيضًا، منذ توقيعها اتّفاق أوسلو تحديدًا.
يعتقد كاتب المقالة أنّ مخاطبة الفصائل الشعب الفلسطيني مباشرةً أو عبر منصّاتها الإعلامية المحسوبة عليها مسألةٌ مهمةٌ جدًا لأسبابٍ عدّةٍ، أوّلها إشراك الفلسطينيين في تطوير استراتيجية التحرير، وثانيها إشراكهم كذلك في خطط احتواء إجرام الاحتلال وتداعياته، وثالثًا في تطوير المقاومة الشعبية على مستويَي العمليات والتخطيط، ورابعًا في فضح سياسات الاحتلال وممارساته دوليًا، لا سيّما على المستوى الشعبي، وخامسًا في توضيح طبيعة المرحلة وأهدافها الآنية وتمييزها عن الاستراتيجية ومن ثم ربطها بها، الأمر الذي يساهم في الحدّ من حالات الإحباط الناتجة عن تضخيم الآمال وفقًا لقراءةٍ حالمةٍ وغير واقعيةٍ، لا تأخذ بالاعتبار الحسابات الواقعية، والتوازنات الراهنة، والظروف الدولية والإقليمية.
تنحو نظم المنطقة وأحزابها وتنظيماتها؛ المعارضة والموالية، إلى تحريف بعض الحقائق أو تجاهل بعضها الآخر، بما يخدم تجميل الواقع
ينطبق الأمر ذاته كذلك على كيفيّة مخاطبة الفصائل الفلسطينيين في الأمور المتعلقة بحلفائها الإقليميين، أو بداعميها الدوليين، كما في التهويل من إمكانية الحرب متعدّدة الجبهات، والتهويل من دور المجتمع الدولي؛ لا سيّما دول الاتّحاد الأوروبي، في كبح جماح الاحتلال، والتضخيم من الخلافات السياسية الراهنة بين الإدارتين، الأميركية والصهيونية. إذ يساهم هذا التهويل؛ وربّما التحريف، في تقديم تصوّرٍ غير واقعي عن الوضع الإقليمي والدولي، وانعكاساته على الساحة الفلسطينية. في حين يجب على الفصائل شرح أسباب كلّ من الأطراف الإقليمية والدولية ومصالحها، ومدى ارتباط هذه المصالح بالشأن الفلسطيني، وتحديد أولويّات كلٍّ من هذه الأطراف على حدة، ومن ثم ربطها ببعضها من أجل توضيح مدى انخراط أيٍّ منها في الشأن الفلسطيني، وتحديد اتجاه هذا الانخراط ومداه، وحدوده الآنية والمستقبلية، وبالتالي استقراء انعكاساته ودلالاته، وتحديد كيفيّة الاستفادة منه، وسبل تمتينه إن أمكن.
للأسف، تسود قناعةٌ شبه مطلقةٍ في منطقتنا العربية؛ على المستويَين الشعبي والتنظيمي، مفادها أنّ التحليل الواقعي والملموس ذو تأثيراتٍ سلبيةٍ كبيرةٍ على معنويات الشعوب، لذا تنحو نظم المنطقة وأحزابها وتنظيماتها؛ المعارضة والموالية، إلى تحريف بعض الحقائق أو تجاهل بعضها الآخر، بما يخدم تجميل الواقع وتأطيره لصالح توجّهاتها وأهدافها، معتقدةً أنّها بذلك تجتذب الحاضنة الشعبية وتؤطرها في سياق معركتها وأهدافها، في حين أثبتت تجارب عديدةٌ؛ لا سيّما في الساحة الفلسطينية، أنّ خداع الكتلة الاجتماعية بغرض تحقيق مصالحٍ آنيةٍ سريعةٍ؛ مثل الشعبية السريعة، ذو انعكاساتٍ سلبيةٍ كبيرةٍ على المديين المتوسّط والبعيد، والأهم أنّه لا يخدم مصالح الشعوب وأهدافها، كما يبعد تلك النظم أو الأحزاب والتنظيمات عن تحقيق أهدافها المعلنة. في حين تثبت تجارب الدول المتقدّمة أنّ التحليل الواقعي الدقيق جزءٌ رئيسٌ من مسار التطوّر والتقدّم، وركيزةٌ ضروريةٌ لتحقيق الأهداف الآنية والاستراتيجية. لذا نلحظ أهمّية الدراسات النقدية والتحليلية التي تُصدرها مراكز الدراسات العالمية؛ بما فيها للأسف المراكز المحسوبة على الاحتلال أو المقرّبة منه، وكذلك التقارير الإعلامية الصادرة عن أهمّ الصحف والمواقع الإعلامية، حتّى لو تضمّنت انتقادًا صارمًا لتوجهات الحكومة أو سياستها، ومديحًا أو إشادةً بسياسات الأعداء أو الخصوم والمنافسين، كما في تقرير صحيفة "يسرائيل هيوم"، وكما في عشرات؛ بل ربّما مئات، التقارير والأبحاث المتخصّصة في فهم (وتحليل) سياسات الصين، الخطر الاستراتيجي الأكبر على أميركا، وفقًا لما نصّت عليه استراتيجية الأمن القومي الأميركي؛ 2022. فهل تدرك الفصائل والقوى الفلسطينية ذلك؟ وهل نشهد دعمًا حقيقيًا وغير محدودٍ للبحث العلمي النقدي والموضوعي؟ وهل نشهد قريبًا دعمًا مماثلاً للعمل الصحافي الحرّ والمستقل فلسطينيًا وإقليميًا؟