إسلام الصورة النمطية
مع نشر فرانسيس فوكوياما كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في 1992، ثم نشر صموئيل هنتنغتون كتابه "صراع الحضارات" في 1996، سادت في المراجعات السياسية جملة من الأفكار المستقاة من الكتابين، لوصف عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وتسيّد الليبرالية الرأسمالية و"انتصارها". ومنها فكرة المواجهة مع العالم الإسلامي، بديلاً عن الاستقطاب السابق مع الاشتراكية الشيوعية. ثم جاءت أحداث "11 سبتمبر" لتعزّز هذه المواجهة، وتمنحها مبرّرات منطقية، ليكون غزو أفغانستان ثم العراق مصاديق لهذه المواجهة بشكلها العنيف والصريح.
أُنتج، خلال ذلك، داخل الماكنة الإعلامية الغربية شكل نمطي عن صورة "العدو" الجديد، ليجري اختزال كل التنوّع في العالم الإسلامي بصورة الجهادي المسلّح الذي يؤمن بأفكارٍ متطرّفة، وصارت هذه الصورة مصدّرة على أنها صورة المسلم، أو الصورة العميقة عن هوية المسلم التي قد يحاول مداراتها، والكشف عن وجهٍ متسامح، ولكن الجهادي المتطرّف يرقد في أعماقه!
حصلت معي مواجهة مع هذه الصورة النمطية المختزلة التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين بشكل عام، في لقاء مفتوح مع جمهور في روما قبل بضع سنوات، حيث استفزّني المحاور بسؤال يضمر تبنّيه هذه الصورة النمطية المسيئة، والتي تجعل كلّ متديّن مشروعاً لجهادي أو انتحاري، وليغدو الالتزام بالتقاليد الدينية كأنه صنو للإرهاب.
أمام هذه الصور، أستحضر دائماً صوراً مضادّة من الحياة الاجتماعية العراقية، ما قبل المفخّخات والإرهابيين والجهاديين بكلّ صنوفهم، حيث المجتمع بشكله العام متديّن ويلتزم بالطقوس الدينية، ولكنه متسامح، داخل دائرة الإسلام نفسه بمختلف طوائفه، ومع المواطنين من خلفيات دينية أخرى.
كبرتُ في بيت جدّتي لأمي وهي تضع على حائط غرفتها ثلاث صور متناقضة: صورة العبّاس بن علي بن أبي طالب وهو يرفع الماء بكفّه من نهر الفرات، وأخرى مجاورة لمريم العذراء وفي حجرها المسيح طفلاً، ثم رسم بدائي لعنترة العبسي! وليس بعيداً عن مكان نشأتي كنيسة قديمة للأرمن الأرثوذكس في وسط بغداد تدخلها النساء المسلمات من حيّ الفضل القريب لطلب "المُراد" حسب التقليد الشعبي من مريم العذراء. وكانت الحيطان الخارجية للكنيسة ملطّخة دائماً بأكفّ الحناء الداكنة، تعبيراً عن مباركة الأهالي لهذا البيت من بيوت الله.
عاش أهالينا في العراق وغيره من البلدان العربية والإسلامية وهم ملتزمون بالطقوس الدينية، ولكنهم لا يضمرون الكراهية لأحد، ولا يحلّون سفك دم أحد. وهذا هو الشكل الأبرز والأكثر شيوعاً، وما عداه هو الشاذ والغريب. ولا يعني ذلك طبعاً أن هذه المجتمعات تخلو من التمييز والعنصرية، ولكنها قادرة على إنتاج صيغ التعايش من دون الحاجة إلى إرشادات متثاقف أو متعالم، وإنما هي خبرتها الاجتماعية التاريخية المتوارثة جيلاً بعد جيل.
شهدنا الأسبوع الماضي حدثي حرق عراقي مقيم في السويد نسخة من القرآن الكريم، واندلاع احتجاجات واسعة في فرنسا تحولت إلى صدامات وأعمال عنف وحرق عقب مقتل شاب مسلم على يد الشرطة الفرنسية. استعيدت في الحدث الأول الصورة النمطية التي صدّرتها وسائل الإعلام الغربية خلال أكثر من عقدين عن اتهام الإسلام بأنه إرهابي في جوهره، وأن من المفيد أن يبقى مستهدفاً وأن يكون في موضع العدو. وفي الثاني أثبت اتساع حجم الاحتجاجات التي حركّها الجيل الثالث من المهاجرين المسلمين في فرنسا أن التاريخ لم ينته، وما زالت الليبرالية الرأسمالية تعاني من قصور داخلي بحاجة إلى معالجة.
هل يعاني المسلمون من مشكلة في التكيّف مع تحدّيات الحداثة ورهاناتها؟ نعم، ولكنهم ليسوا المعضلة الأساسية أو الوحيدة. لقد استعمل الغرب نسخة من الاسلام لمعاركه في الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي، وعبثت أصابع الغرب في العالم الاسلامي، وظلّ اليسار واليمين الغربيان، كلٌّ من زاوية مصالحه، يلعب داخلياً في ملفّ المسلمين، فيقرّب هذا ويستبعد ذاك، ويستعمل صورة المسلم بعبعاً لتخويف المواطنين من المهاجرين، حتى لو كانوا من الجيل الثالث، ولا يعرفون بلداً آخر غير الذي ولدوا فيه.
لقد تعلّمنا خلال أحداث العنف الطائفي في العراق أن صوت المتطرّف من الطائفة الأولى ينتعش ويزدهر بردٍّ من صوت الطائفة الثانية المتطرّف، وكلا التطرّفين يعتاش على الآخر. ويبدو اليوم الأكثر ارتياحاً في الغرب صوت اليمين المتطرّف الذي لا يهمّه سوى نيران الحرائق في المحال التجارية في فرنسا، وأنها صادرة، ليس من مشكلات بنيوية اجتماعية داخل فرنسا، وإنما من متطرّفين إسلاميين على وفق الصورة النمطية المكرّسة في وسائل الإعلام اليمينية.