إسرائيل مذعورة من "الجزيرة"

09 مايو 2024
+ الخط -

يروي فيلم البرايدتور (المفترس)، المصنّف جنساً في رتبة أفلام التشويق والإثارة والرّعب، بطولة أرنولد شوارزنيغر، حكاية بعثة عسكرية لإنقاذ دبلوماسي أميركي عالق في غابة. الحكاية حكاية رهينة أو مفقود، وهي حبكة هوليووديّة أميركية نمطية. يقع أعضاء البعثة في مصيدة شبح يقتل أفراد البعثة واحداً تلو الآخر، والشبح الذي ينفرد بعائلة أو رهط أو عصبة، حبكة هوليودية نمطية. يقضي الوحش على المجموعة كلّها، إلا رجلاً واحداً هو بطلنا الذي يتبيّن له أنّ الشبح مخلوق فضائي خارق، قادر على التخفي والطيران، ومؤلّل بآلات دفاعية وهجومية فريدة، عندما يهتدي مصادفة إلى أنَّ الطين يستره عن عين الوحش الجاسّة بالحرارة، فيدرك عجز الوحش وضعفه، وينصب له الكمائن، فينجح في تدميره تدميراً. لقد استعان بالطين المسنون، الذي خلقنا منه، فأفلح، أرخص سلاح وأيسره، فجعل الوحش أعمى، أظنّ أننا عدنا إلى "السيكلوب" في الأسطورة الإغريقية. أصل الفكرة السينمائية هي أن يذرّ البطل تراباً في عين الشرير، فينجو، وقد نقل التراب من هيئة جافة إلى هيئة رطبة ومن عضو إلى جسم. قالوا: المعاني ملقاة على الطريق.

نزل الفلسطيني في غزّة تحت الأرض 60 متراً، تحت الطين، لإخفاء نفسه عن عين "البرايدتور" الإسرائيلي، فلن تستره صبغة طين رقيقة، سماكة الطين الذي وارى به الفلسطيني نفسَه تبلغ عشرات الأمتار، فالبرايدتور الذي يطارده يتمتع بقدرة هجومية ودفاعية هائلة، ومذخّر بذخائر دول عظمى؛ بريطانية وإيطالية وأميركية، استخباراتية، وأقمار اصطناعية وآذان إلكترونية تلتقط شخصيات الأصوات عبر طائرات في السماء. إسرائيل تخفّت باسم الديمقراطية والتقدّمية والإنسانية والأخلاق والأساطير والدين، لكنّها اضطرت أن تخلع صبغتها الجميلة الباسمة. عندما يخلع البرايدتور قناعه في أحد المشاهد، يقول له بطلنا الهُمام "دش": يا لك من قبيح أشرّ، فالمخلوق رأسه رأس سرعوف.

يمكن أن نتحدّث عن الكيل بمكياليْن، ولن يختلف الحُكم إنّ كان المكيال واحداً ، فالكيّال أعمى، وهو أعمى قلب. تقول رواية "بلد العميان" (نشرت للمرّة الأولى في عدد إبريل/ نيسان 1904 من مجلة ستراند) لهيربرت جورج ويلز، إنَّ مستكشفاً بريطانياً اسمه نيونز، زلّت به قدمه وهو يتسلق الجبل، فسقط إلى وادي عميان، فتاه عنه صحبه حتّى ظنوا أنّه قد مات، فوجد ناسا كلّهم عميان، وبلدةً بيوتها خالية من النوافذ والأنوار، فأخبرهم عن أحوال أهل بلاده المُبصرين وأنوارها، فأنكروه واتهموه بالجنون، فحاول الهرب منهم، فاصطادوه، وعوقب بالجلد على جناية الهرب، فاستسلم لمصيره، وعوقب بأعمال شاقة، ثم إنّه وقع في حبّ صبية عمياء جميلة من مواطنات بلد العميان، فالتمسها للزواج، فطلب والدها منه مهراً ثميناً، وكان مهرها أغلى من مهر عبلة وديانا وإيفانكا ترامب، وهو حبيبتاه: عيناه، صِداقه هو العمى، لن يتزوج من صاحبة الحسن والدلال إلا بفقء عينيه، فهرب ونجا بنفسه وعينيه. العينان هما الحبيبتان، فلن يرى جمال خطيبته الفتّان إن خسر حبيبتيه.

أمس حظرت إسرائيل "التقدّمية" "الديمقراطية" قناة الجزيرة في إسرائيل، هذا سمل مجازي للعين، أو: قسر على رؤية المشهد الذي يريده الفرعون لشعبه أن يراه، ممنوع نقل الحقيقة. وتقوم وسائل التواصل، وهي آلات يملكها الغرب وتديرها إسرائيل في المنطقة بسمل العيون بسكاكين الخوارزميات، ومشارط تقييد الوصول، وسواطير الحجب، وسيوف حذف الصور، سوى الروايات والأفلام التي نشاهدها، فهي أفلام غربية، وهذا أيضاً سلب للعقول وخطف للأبصار، وآية ذلك أنني استشهدت بمثاليْن غربييْن؛ رواية إنكليزية، وفيلم أميركي، لكنّ طلاب الجامعات الأميركية عرفوا الحقّ وثاروا ضدّ حكومات بلد العميان.

يظهر البرايدتور بايدن أو البرايدتور نتنياهو أو أحد مساعديه، على الشاشات، باكين على المخطوفين الإسرائيليين، بدموع التماسيح الحزينة، ويَعِدُون بإنقاذهم، من غير ذكر لآلاف الفلسطينيين من النساء والأطفال المُعتقَلين في معتقلات الاحتلال السرّية والعلنية، فهم لا يرونهم. تجتهد وسائل الإعلام، في فنّ التجويد، إظهاراً وإخفاءً، وبثّ الأخبار الخلّابة، كخبر اكتشاف جمجمة إنسان نياندرتال في العراق، ولا يعرف عدد المرات التي أعلن الإعلام فيها اكتشاف عظام هذا الإنسان؛ آدم الحداثيين، وله من وراء الخبر أكثر من غرض وغاية، أوّلها إنكار أبوّة آدم. فرعون كان قد أصدر إعلانا دستورياً قال فيه: "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى"، و"ما تسمعوش كلام حدّ غيري".

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر