إرهابي بموديل فرنسي

08 ديسمبر 2023
+ الخط -

في فنّ صناعة "المجرم"، هناك مدارس وتوجّهات واجتهادات. لكن الموضوع، في الإجرام الخالي من الإيديولوجيا، أبسط من ذلك، حيث يتمّ الاكتفاء بلَوم المجتمع على الإساءة إلى الجناة خلال نشأتهم، ما ينمّي فيهم الحقد والعنف. بل حتى في الجرائم التي هي مذابح حقيقية، يقوم بها شخص واحد، مثل إطلاق يافعين النّار على زملائهم في المدارس الأميركية مثلاً، يُلام التنمّر وظروف حياة المجرم على الجريمة. بينما تُلام عقيدة المجرم البريئة منه، في جرائم أخرى. حيث لا يهمُّ السِّياق الذي صنَع هذا المجرم، الذي عادة ما يكون مُصاباً بخللٍ نفسي ما، تحت تأثير ظروف حياة قاسية، وتحريض ناتج عن الصّناعة المتعمّدة لمجرمٍ تحت الطلب. لذا لم يأت خبرُ اعتداء فرنسي على سيّاح أجانب في باريس، يوم 2 الشهر الحالي (ديسمبر/ كانون الأول)، خالياً من أهمّ ما فيه، هُوّية المُعتدي المعروف "بتوجّهات الإسلام المتطرّف". لندرك على وجه السّرعة من المجرم، حتى لا تأخذنا الظّنون، ونعتقد أنه "شخصٌ عادي". في الحقيقة، لسنا نحن من يُراد لنا أن نعرف هُوية المجرم، بل الرّأي العام الغربي الذي عليه أن يُدرك أن حركة حماس قد تدخل بيوت الغرب، بعد أن تنتهي من الاعتداء على "الإسرائيليين الأبرياء". فمع عقود من غسل الدماغ، صار الرأي العام الغربي يصدّق كل شيء.

في تفسير الإجرام، نُردّد دوماً كيف أن للإرهاب آباء روحيين، هم الذين يزرعون العنف الجماعي، ليحصدوه على شكل عنفٍ فردي. وهذا صحيح، فمُعظم أعمال العنف الفردي، التي جرى الاتفاق على تسميتها أعمالا إرهابيّة، جاءت كردّ فعل على عنف الدول والقوى الكبرى، تجاه فئة من الناس يتراكم لديها الشّعور بالغضب، الذي يحوّله شخصٌ ما إلى فعلٍ عنيف، أعمى غالباً، لعدم القدرة على التّخطيط.

لكن السّؤال الأهم: من يستفيد من هذه العمليات؟ لأنّ المستفيد عادة هو المتّهم الأول في جرائم القتل غير المعروف صاحبها، أو المشكوك في وجود شركاء له لا يكشف عنهم. لهذا، لا أحد مُعفى من المسؤولية والتّهمة، بما فيها المُخابرات الغربية التي يشكّ كثيرون بأنّها كانت على علم بالعمليات المصنّفة "إرهابية". ولن نعرف العمليات التي كانت طرفاً فيها على وجه التّحديد، من غيرها.

هناك رغبة تزداد انكشافاً في منح الحرب على غزّة صيغة حرب دينية يهاجم فيه الإسلام باقي العالم، وهو الادّعاء الذي كشفت الأيام زيفه للرأي العام الغربي، رغم مقاومته الشديدة رؤية الحقيقة. ولعملية باريس هذا البعد، وهذا التوجه لليّ عنق المشاهد الغربي كلياً عن رؤية جرائم إسرائيل في غزّة. إذ سرعان ما أُعلن عن دين المُذنب أولاً، ثم مرضه النفسي.

لكن، إذا كان المرء مريضاً نفسياً، فما فائدة الإشارة إلى دينه؟ فلو كان من دين آخر لما اختلف الأمر. مع العلم أن ما فعله هذا الشخص يخدم الذين يبحثون عن فرصةٍ لتبرير مساندتهم إجرام إسرائيل، لا الآخرين من ذوي الأصول المسلمة، الذين يدفعون ثمن تشدّد المناهضين لانفتاح المجتمع الفرنسي من الشّوفينيين.

وفي البيان الذي بثّه في وقت إقدامه على العملية، يقول منفذ العملية، وهو من أصول إيرانية، أرمان رجابور، إنه ملّ من قتل المسلمين في أفغانستان وفلسطين. لم يأت اختيار هذين الاسمين من فراغ، فهاتان الدّولتان هما عاصمتا الإرهاب في نظر الغرب السياسي، باعتبار وجود حركتي طالبان وحماس التي صارت أكثر "إرهابية" من أيّ منظمة أخرى في منظوره.

إذا كان هناك نوع محبّب من الضحية للغرب، فإن هناك نوعا آخر محبّبا أكثر من المجرمين، الذين يؤدّون الخدمات بشكلٍ غير مباشر، وربما المصنوعين على المقياس، للقيام بخدمات مباشرة للجهة الغربية التي تحتاج إلى نكش جرح أو إثارة زوبعةٍ تنتهي لصالحها. لن نعرف المسؤولين المباشرين عن تجنيد منفّذين لعمليات إرهابية، وربما نعرف عند تسريبٍ مقبل يشبه قنبلة ويكيليكس. في انتظار ذلك، ستُفرض معارك كثيرة علينا، حتى لو لم يكن بيننا وبينها ودّ ولا ابتسامة ولا موعد ولا لقاء. وأحداث تندفع كأنها بلا يد تحرّكها، بينما هي محضُ عرائس تُمسك بها أيدٍ خبيرة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج