إدانة عربية لفلسطين
"وزير خارجية الإمارات يدين تصريحات الرئيس الفلسطيني بشأن اليهود والمحرقة النازية". فركتُ عينيّ ودققت جيدًا لأتأكد من أنّ العنوان صحيح، وأنّني قرأته بشكل سليم. ليس وزير خارجية ألمانيا أو إسبانيا أو حتى الولايات المتحدة، بل هو عبد الله بن زايد آل نهيان.
في تفاصيل الخبر أنّ وزير الخارجية الإماراتي، التقى عدداً من ممثلي المنظمات اليهودية، على هامش أعمال الدورة ال78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وهاجم "التصريحات غير المسؤولة التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس".
تصريحات الرئيس الفلسطيني غير مسؤولة... هذا أسوأ ما يمكن أن تسمعه بعد عقود من صرخة حسني مبارك في وجه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات "وقّع يا ابن الكلب"، حين كان أبو عمار متردّدًا في التوقيع على اتفاقيات عرّابها مبارك وراعيتها واشنطن.
هذه مرحلة متطوّرة للغاية في إعدام معنى الشقيق والمصير المشترك والانسلاخ التام من التاريخ، إذ صرنا بصدد استنكار صرخات الفلسطيني حين يُقتل، وإدانة هتافه ضدّ محتلٍّ يَرتكب بحقه من المجازر والمذابح، ما يفوق جرائم النازي التاريخية.
كان من الممكن لبن زايد أن يتجاهل المسألة برمّتها، وخصوصًا أنّ تصريحات الرئيس الفلسطيني عن النازي مضت عليها أيام، فضلًا عن أنّ محتواها ليس جديدًا ولا متفرّدًا، حيث تحدّث عباس إنّ المحرقة وقعت نتيجة ممارسات اليهود في ألمانيا النازية، وليس انطلاقًا من معاداة السامية.
كان يمكن للرجل الأول في الديبلوماسية الإماراتية ألّا يتطرّق لهذا الأمر، وأن يجد مخرجًا من ابتزاز ممثلي المنظمات اليهودية، فيضع نفسه على مسافة واحدة ممن يفترض أنّه الشقيق، ومن ذلك الذي هو عدو، لكنه اختار إدانة الضحيّة على صرخة الألم.
في الموضوع ذاته، لكن في نقطة مضيئة أخرى على خريطة الضمير العربي، كان ذلك المواطن المغربي البسيط يعلّمنا درسًا في الأخلاق، وفي القيم، وفي التاريخ، وهو واقف على ركام منزله المهدّم بفعل الزلزال المدمِّر.
صرخ الرجل في وجه من يدسّ سمّ التطبيع في عسل المساعدات العينية للمنكوبين، حين وجد بين أعضاء قافلة المعونات إسرائيليين، رافضًا وجودهم في المكان، ورافضًا، بإصرار أشدّ، مساعداتهم للمنكوبين، وبكلمات بسيطة عبّر عن جوهر المسألة: أنا مغربي عربي مسلم يفعل الاحتلال بأشقائي في فلسطين أسوأ ما فعله الزلزال بنا، فلا أهلًا ولا مرحبًا بهم هنا فوق أنقاضنا وأوجاعنا وأحزاننا.
هذا الرجل البسيط أكثر وعيًا وإحساسًا بالمسؤولية تجاه فلسطين من كبار الدبلوماسيين العرب، الذين قطعوا أشواطًا لا يمكن تخيّلها في محاولة التقرّب لعدو لا تقلّ كراهيته لهم عن كراهيته للشعب الفلسطيني، ومن ثم يظلّ المواطن العربي هو القاعدة بينما السياسيون الرسميون، وغير الرسميين، من اللاهثين خلف وهم التطبيع هم الاستثناء.
هذا ليس تحليقًا في سماء الوهم، بل هو الواقع ينطق بأنّ نصف قرن من محاولات فرض التطبيع على الشعوب بالقوّة لم تفلح في إفساد الفطرة الإنسانية البسيطة، ليظلّ هذا التطبيع شأناً يخصّ أهل السلطة وأعوانهم المضحكين من نوعية مصطفى الفقّي الذي استنكر بطولة جندي الحدود المصري، لأنه "لا نريد شيئا يعكّر صفو المنطقة والتعايش المشترك مع إسرائيل".
مرّة أخرى، ما يجعلنا نطمئن على المستقبل أكثر أنّ هذا المنطق التطبيعي الفخم يتردّد بنصِّ عباراته منذ عقود، بموازاة إجراءاتٍ عمليةٍ أخرى، تطال مناهج التعليم والخطاب الديني والإعلامي، انعكاسًا لانقلاباتٍ استراتيجيةٍ هائلة لدى الأنظمة العربية. وبالرغم من ذلك، لا تزال الشعوب تلفظ ذلك كلّه، وتقدّم لفلسطين أجيالًا جبلت على محبّتها وكراهية العدو، بالفطرة.