إبراهيم الحمدي في نيويورك
لعلّها الرتابة المضجرة، والتي تبعث على ملل باهظ، في الأخبار المتواترة من اليمن وعنه، وإنْ تشيع فداحة الأحوال الإنسانية في مساحات شاسعة منه سويداء حادّة في الأنفس، لعلّها هي التي تجعل خبرا يمنيا قادما من الولايات المتحدة لافتا، بل تصنع للرمزية البادية فيه قيمةً خاصة. موجزه أن المجلس البلدي في منطقة برونكس في نيويورك وافق على تغيير اسم شارعٍ فيها ليحمل اسم الرئيس اليمني الأسبق، إبراهيم الحمدي، في تصويت نهائي الأربعاء الماضي، لتشرَع وزارة النقل بتغيير اللافتات المرورية المؤدّية إلى الشارع، ولتنظّم مراسم احتفالية بالمناسبة قريبا. وقد أفيد بأن خبيرا جويا في إدارة الطيران الفيدرالية من أصل يمني نشَط، منذ شهور، باتجاه هذا الإجراء الذي يذكّر، حتما، بأن الحمدي قضى في جريمة اغتيالٍ غادرةٍ، وخسيسةٍ في آن، في أكتوبر/ تشرين الأول 1977، بعد أربع سنواتٍ في رئاسة اليمن (الشمالي في حينه). وعلى الرغم من أنه جاء إلى موقعه في انقلاب عسكري (قبلي إذا شئت) على الرئيس المدني، القاضي عبد الرحمن الإرياني، إلا أن شعبيّته بين عموم اليمنيين هائلة، دلّ عليها، مثلا، رفع صوره في أثناء انتفاضة 2011 واعتصاماتها ومظاهراتها ضد الرئيس علي عبدالله صالح، مع اتهام الثائرين الأخير بضلوعِه، بكيفيةٍ ما، في اغتيال الحمدي، الأمر الذي تسوّغه شبهاتٌ غير قليلة، جاءت عليها تحقيقاتٌ صحافيةٌ وترجيحات شهودٍ، بل ووثائق أميركية تم الكشف عنها في العام 2015.
ولئن كانت وحدها المصادفة جعلت سرور اليمنيين الواسع بخبر الشارع في نيويورك يأتي أياما فقط بعد احتفال اليمنيين في كل مدنهم، الاثنين الماضي، بفوز منتخب بلدهم للناشئين لكرة القدم بكأس بطولة غرب آسيا، فإن لواحدِنا أن يحسب الأمرين معا شاهديْن على توطّن قيمة وحدتهم الجامعة بينهم في حشاياهم، في غضون حربٍ أهليةٍ شنيعة، لا يُراد لها أن تتوقف، لما يعود به استمرارها من منافع ومصالح غير هينة على قطاعاتٍ وفئاتٍ متوحشة في البلد. وفي البال أن إبراهيم الحمدي كان صاحب المشروع الأول والحقيقي لوحدة الشمال والجنوب، فقد نجح في بناء علاقات حسنةٍ، أو جيدة نسبيا، بين الجمهوريتين القائمتين آنذاك، وأقام صلات تفاهم وحوار مع نظيره في الجنوب، سالم ربيع علي، ووقّعا معا اتفاقا على إقامة مجلسٍ مشتركٍ يبحث في آفاق تحقيق الوحدة الوطنية بين "شطري اليمن". وعلى الرغم من حرصه على علاقاتٍ طيبةٍ مع العربية السعودية، وزياراته لها، وتواصله المستمر مع قياداتها، وطمأنتها بأن سياساته وخياراته في بلده لا تُناهض المملكة ومصالحها، إلا أن المسؤولين السعوديين، السياسيين والأمنيين، لم يرتاحوا له، وارتابوا فيه، وكانت جهودُه باتجاه الوحدة مع الجنوب مبعث قلقٍ فيهم. وإذا كان الحوثيون قد شكّلوا في العام 2019 لجنة تحقيق في واقعة اغتيال إبراهيم الحمدي (!)، انتهت إلى اتهام السعودية فيها، وإذا كان صالح، في تصريح نادر له في المسألة بعد خلعه، جاء على الاتهام نفسه، في معرض نفيه عن نفسه مشاركته في الاغتيال الغادر، والذي جرى في منزل نائب الرئيس، رئيس الأركان، المقدّم أحمد الغشمي، بعد غداء كان الرئيس مدعوّا إليه وجاء إليه متأخرا. (تولّى الغشمي الرئاسة بعد الجريمة، ثم اغتيل بعد شهور بانفجار حقيبة مفخّخة في مكتبه، قيل إن مبعوثا من الجنوب وضعها)، إذا كان اتهام السعودية ذائعا عند خصومها، فإن محايدين لا يستبعدون هذا الاحتمال الذي ليس في وسع كاتب هذا التعليق أن يتبنّاه أو ينفيه.
في الوُسع أن يجتهد واحدُنا فيقول إن المكانة التي يُحرزها الراحل إبراهيم الحمدي في أفئدة اليمنيين، من مختلف المنابت والمطارح، ولدى الناشئة والشباب الذين لم يدركوا رئاسته، إنما تعكس أشواقا فيهم إلى ما تطلّع إليه ذلك الرئيس الذي حسبته تقديراتٌ أميركيةٌ وغربية "عبد الناصر اليمني" على صعيد بناء اقتصادٍ وطنيٍّ ناهض، والالتفات إلى إقامة مشاريع تنمية، والعودة إلى اليمن الموحّد، المنفتح على علاقاتٍ طيبةٍ مع الخليج والشرق والغرب، والعمل من أجل إقامة دولةٍ مركزيةٍ قوية، ما أمكن. إنه العسكري الأيقونة ربما. لم يقيّض له أن يكون كما خوان بيرون في الأرجنتين، ولا مثل عبد الناصر ولا غيره.. حاول أن يكون رئيسا يمنيا ينفع مواطنيه بما يستحقّون من أمن واستقرار وعيش كريم، فاغتيل، وهذا شارعٌ باسمه في نيويورك ييسّر مناسبةً لاستعادة سيرته، والنبش مجدّدا، للمرّة الألف ربما، في واقعة قتله، الغامضة إلى حدّ ما، الواضحة إلى حدّ ما أيضا.