أي توقعات من وفود قضائية أوروبية إلى لبنان؟
تشهد الساحة السياسية اللبنانية انقساما واضحا بشأن الموقف من توافد البعثات القضائية الأوروبية إلى لبنان، في شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، للتحقيق في شبهات تبييض أموالٍ تطاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأخاه ومساعدين له، وكذلك موظفين في المصرف المركزي، ومدراء في مصارف لبنانية تجارية. ففي حين يتخوّف بعضهم من "خرق للسيادة" اللبنانية قضاءً وقوانين، ويبني موقفه المعارض للتدخل القضائي الأوروبي على هذا الأساس ("الغزوة القضائية" بحسب صحيفة الأخبار اللبنانية، المقرّبة من حزب الله)، ينطلق آخرون من عجز القضاء اللبناني الممسوك من السياسيين ومن السلطة النقدية، وكذلك من الجهات المصرفية، عن القيام بدوره طوال سنوات الانهيار التي شهدت أسوأ انهيار مالي واقتصادي منذ أكثر من قرن بشهادة البنك الدولي، ليدعم أي تحقيق قضائي خارجي قد يكشف بعض الحقائق المتصلة بهذا الانهيار، وبعضا ممن تسبّبوا به.
والمفارقة أن من يتخوّف على "السيادة" إزاء التحقيقات القضائية المحتملة من وفود قضائية أوروبية، تمثل بلدانها المقلب الآخر في عمليات تبييض الأموال المشتبه بها، لا يحرّك ساكنا حيال ما شهدته ولا تزال تشهده الحدود والمعابر اللبنانية من انفلاتٍ وتهريب للبضائع والأموال كبّد لبنان مليارات الدولارات في أصعب أيام الشدائد، وهو نفسُه يمثل، في موقفه، الجهات التي طالما ناوأت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف التجارية اللبنانية المستهدفين بالتحقيقات القضائية الأوروبية، سنوات، وهو نفسُه الذي صمت صمت القبور عن التدخل السافر لمسؤول وحدة التنسيق والارتباط، الملياردير وفيق صفا، في عمل القضاء وتهديده المباشر للقضاة في سياق التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت... بعبارة مختصرة، هم من أشهر حربه الإعلامية ضد رياض سلامة وكارتيل المصارف، وهم من يعرقل التحقيقات القضائية المحلية معهم، وهم من يتصدّى للتحقيقات القضائية الأوروبية في سلوكياتهم المشتبه بها. يتهمون رياض سلامة ويرفضون التحقيق معه! أليس هذا دأب قوى الممانعة والتابعين في لبنان؟
نظام قضائي وظيفته الحقيقية هي حماية المجرمين، وتثبيت مبدأ الإفلات من العقاب مبدأ فوق قانوني وفوق دستوري
المفارقة الأخرى أن بعضهم يُضخّم من حجم توقعاته مع علمِه المُسبق أنّ هدف التحقيقات المالية الأوروبية لن يتجاوز معرفة كيفية انتقال الأموال بين لبنان والبلدان المعنيّة ذهابا وإيابا، بهدف كشف عمليات تبييض أموالٍ مشتبهٍ بها من دون الالتفات إلى مصادرها الأصلية، أكانت مشروعة أم لا، على اعتبار أن حاكم المصرف المركزي اللبناني، رياض سلامة، يمثل الصندوق الأسود للقوى المتحكّمة في لبنان سياسة واقتصادا ومالا ونقدا، فإذا انفتح هذا الصندوق، فستكتشف كل الحقائق والأسباب وراء الانهيار المالي والنقدي في لبنان.
ولأن بعضا من ضحايا تفجير مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) يحملون الجنسية الفرنسية، ولأن التحقيق في جريمة تفجير المرفأ متوقفٌ منذ ديسمبر/ كانون الأول 2021، بسبب دعاوى الرد ومخاصمة الدولة التي تقدم بها السياسيون المتهمون، والتي أعيق البتّ بها لعدم اكتمال عقد الهيئة القضائية المختصة بسبب الشغور الذي استمرّ كل هذه المدة لامتناع وزير المالية، وبإيعاز من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، عن توقيع التشكيلات القضائية الجزئية التي أقرّها مجلس القضاء الأعلى لملء هذا الشغور، وذلك كله بهدف تعطيل التحقيق ثم تناسيه، يحضر وفد قضائي فرنسي للاطلاع على ما انتهى إليه التحقيق في هذا الملف.
وعليه، ستتناول مهمة الوفود القضائية الأوروبية أخطر قضيتين أصابتا حياة اللبنانيين ومصيرهم في هذه المرحلة: الجرائم المتعلقة بانهيار المالية العامة وانهيار الوضعين، الاقتصادي والمعيشي، وتفجير مرفأ بيروت الذي قتل مئات وجرح آلافا من البشر، ودمر أهم منفذ للبنان على العالم، كما دمّر ثلث العاصمة، وتسبب بتشريد مئات الآلاف من أبنائها، وفاقت الخسائر الناجمة عنه 15 مليار دولار بحسب أكثر التقديرات، في وقت تنوء فيه البلاد تحت أسوأ أزمة اقتصادية مرّت بها.
لكن، ومنذ أُعلن عن قدوم الوفود القضائية الأوروبية.. عادت بي الذاكرة إلى زيارات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان، بُعيد تفجير مرفأ بيروت، ففي أول زيارة له يومين بعد الجريمة، لم يبدأ زيارته بالقصر الرئاسي، ولا بأي رئيسٍ أو مسؤول، بل ذهب الى "حيث لا يجرؤ الآخرون"، إلى المناطق الأشدّ نكبة من بيروت، الجمّيزة ومار مخايل. وكبرَ حجم التوقعات..
نلمس التجرؤ على تبرئة المصارف ومصرف لبنان، والتلميح إلى ضرورة التمديد لرياض سلامة على رأس السلطة النقدية
يومها ظنّ اللبنانيون، المفجوعون بهول ما حد وبتنكّر المسؤولين ونأيهم بأنفسهم عن الفاجعة، أنّ فرنسا ستنقذ البلاد من بين مخالب مفترسيها، ولكنّ النتيجة كانت تعويم سيطرة هؤلاء الوحوش.. وذهبت المبادرة الفرنسية التي أعلنها ماكرون، بعد أن جمع كل القادة السياسيين اللبنانيين في السفارة الفرنسية، أدراج الـ4% التي أشهرها النائب محمد رعد في قصر الصنوبر، حين قال: نتفق مع مبادرة الرئيس ماكرون بنسبة 96%، بينما أكّد باقي الفرقاء أنهم يوافقون عليها بنسبة 100%.
اليوم، قد تأتي الوفود القضائية الأوروبية بتوقعات كبيرة، فالناس أدركوا جيدا أن نظاما قضائيا لا يحرّك ساكنا حيال تجميد ملف المرفأ أكثر من سنة هو، بحدّ ذاته، كذبة كبيرة، بل إنّ وظيفته الحقيقية هي حماية المجرمين، وتثبيت مبدأ الإفلات من العقاب مبدأ فوق قانوني وفوق دستوري. ويعلّق لبنانيون كثيرون آمالا كبيرة على مثل هذا التدخل القضائي، باعتبار أن الدول الأوروبية دول مؤسسات وسيادة قوانين وقضاء مستقل... ولكن حذار من الإفراط في التوقعات، فحين يدخل القضاة الأوروبيون في زواريب القضاء اللبناني، وفي متاهات القوانين المحلية والإجراءات المُفصّلة بِدقّة لتطبيق مبدأ الإفلات من العقاب، سترون كيف سيراوغون ويماطلون ويلوذون بالفرار إلى تعويم جديد للسلطتين المالية والقضائية.
وها نحن نلمس التجرؤ على تبرئة المصارف ومصرف لبنان، والتلميح لضرورة التمديد لرياض سلامة على رأس السلطة النقدية!. أمّا في جريمة تفجير المرفأ، فكيف يُلام اللبنانيون، وكيف يُلام ذوو الضحايا حين يقتحمون قصر العدل في بيروت احتجاجا وغضبا، بعد أن سمعوا أحد محامي المصارف وقوى السلطة يقول، على فضائية لبنانية معروفة، وفي معرض تعليقه على زيارة الوفود القضائية الأوروبية: "ملف التحقيق في تفجير المرفأ ليس مجمّدا، هذا الملف مات"!؟