أين نحن من الغد في مرحلة ما بعد الإنسانية؟

24 سبتمبر 2024

(Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

قلق جماعي في المجتمع اللبناني بعد الضربة الإسرائيلية التي تجاوزت الخطوط الحمراء والمواثيق الدولية كلّها، و"قواعد الاشتباك" جميعها، مهما كان شكلها وزمنها وموقعها. هذا ليس غريباً عن سلوك إسرائيل الذي كرّسته على مدى عقود في صراعها مع الشعب الفلسطيني، ومع محيطها العربي، وقد تكاثف بصورة وقحة وفاجرة في الحرب الدائرة منذ عام تقريباً في غزّة، ضاربةً عُرْضَ الحائط بالقوانين الدولية وبالدعوات التي تطلقها بين حين وآخر حكومات وأنظمة، ما زالت تُعلِن تأييدها إسرائيل في مواجهة "أعدائها"، وتضعها في مواقفَ مُحرِجةٍ في قبالة الرأي العام العالمي، وفي قبالة شرائح واسعة من شعوبها.
ظهر هذا القلق مباشرة بعد "مجزرة البيجر"، فصار الخوف على الأرواح يتمادى، ويُزجّ اللبنانيين في أنفاق الخوف من كلّ شيء، بعدما باتت التكنولوجيا الحديثة أحد أهم شرايين الحياة وأعصابها في لحظتنا الراهنة، وصارت من أدوات الانتماء إلى العصر، أو العيش فيه. عمّت موجةُ الخوف والقلق والترقّب المجتمعَ اللبناني، فأخذ الناس ينتهجون سلوكاً يُعطّل استخدام الأجهزة، من أجهزة الهواتف النقّالة إلى أجهزة وألواح الطاقة الشمسية، إلى تعطيل البطاريات بمختلف أشكالها، خاصّة التي تحتوي عنصر الليثيوم، وهذه الأجهزة باتت أكثرَ من ضرورية في الحياة، لأنّها الممكن البديل المتوفّر لدى الناس من أجل الاستمرار في حياتهم، فمؤسّسات الدولة شبه منهارة، ولا تستطيع تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات للمجتمع، والكهرباء مشكلة منذ عدة سنوات، المياه التي تعتمد على الكهرباء في وصولها إلى المستهلك شحيحة، وقد تنقطع أيامّاً عدّة، الإنارة المنزلية وتأمين الطاقة لاحتياجات الأدوات المنزلية في الحدّ الدنى من الخدمة، وكذلك المعامل والمصانع التي صمدت في وجه الأزمات المُستفحِلة، وأيضاً العملية التعليمية في مراحلها كلّها... إلى ما هنالك ممّا يمكن الحديث عنه في جوانب الحياة التي لم تعد نوعاً من الرفاهية يحصل عليها بعض المُقتدرين، ويمكن للبقية العيش من دونها، بل صارت أحدَ ركائز الحياة العصرية، شئنا أم أبينا.

حتى نكون أقوياء، لا يكفي امتلاكنا أدوات وآليات إنتاج المعرفة العلمية، بل تنقصنا الحرية

في هذا الوضع العصيب، وهذه الحالة من التراجع المؤسّساتي والمجتمعي والاقتصادي والسياسي، وانغلاق أبواب التفاهم وصيغ متّفق عليها تخرج البلاد من عنق الزجاجة، وتطلق الإمكانات والطاقات، تستفحل العطالة في الحياة، ليس العطالة فحسب، بل تعطيل الطاقات الكامنة، خاصّة لدى جيل الشباب الذي يحمل تاريخياً وعلمياً بذور الإبداع والابتكار والتطوّر، هذا الجيل الذي أجبرته ظروف المنطقة على الهجرة حتّى لو ركب الأخطار كلّها، من أجل الوصول إلى برّ يستطيع معه البدء بحياة بعيداً عن أسباب القهر والظلم والموت واستلاب فرص العيش والتطوّر. هذا ما يحصل في معظم بلداننا في اللحظة التي بدأ فيها العالم المنتج للعلوم والتقنيات بالاهتمام النقدي بمرحلة ما بعد الإنسانية، وسعيه، دائماً، باتجاه المستقبل من أجل استباق المشكلات قدر المستطاع، نعيش نحن في مرحلة نزداد فيها نكوصاً نحو الماضي، ونبتعد، أو نخرج من عصر العالم.
من الطبيعي والمتوقّع أن يجنح سلوك العامّة، في هذه المجتمعات والشعوب المنتهكة والمشلولة، نحو التعامل مع تقنيات العصر المتاحة بهذا الشكل من القلق والخوف، وذلك بسبب عوامل عديدة ومتنوعة، فنحن شعوب لم نعد ننتج المعارف منذ قرون، ولم نعد نواكب الحضارة معرفياً وعملياً أيضاً، نحن مُستهلِكون لما تنتجه شعوب العالم القوي، ومستوردون لصناعاته، من دون دراية بمقوّمات هذه المنتجات وآليات صنعها والعلوم المتآزرة والمتطوّرة باستمرار في ابتكارها وتصنيعها، وبما أنّ "المستقبل يعتمد على ما نقوم به اليوم"، كما قال المهاتما غاندي، وما نقوم به اليوم لا يتجاوز كوننا مُستهلِكين من دون دراية، فإنّ التغيير مُقلِق ومُخيف بالنسبة إلينا، بل إنّ الأزمات التي مرّت بها شعوب المنطقة، أقلّه في العصر الحديث، ومن أهمّها القضية الفلسطينية والمصير الذي آلت إليه، هذه الأزمات زادت ضعف الثقة بالنفس بالنسبة إليها، وزادت الخوف من التغيير، يمكن أن يجلب المستقبل أيضاً المخاوف والشكوك. ولكن كما قال الفيلسوف سينيكا "ليس لأنّ الأمور صعبة لا نجرؤ على القيام بها. لكنّها صعبة لأنّنا لا نجرؤ على القيام بها". وهذا ما يمكن عدّه أحد أهم أسباب فشل انتفاضات الشعوب العربية في كل مكان، وسقوط الشعوب مرّةً أخرى في طاحونة الصراع بين الأنظمة الديكتاتورية والإسلام السياسي، من دون التفكير بحلّ آخر.
إذا ما استرجعنا تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الذي قام بشكل أساس على الاحتلال الإسرائيلي وإنشاء دولة عنصرية قائمة على اندغام القومية بالدين، على الرغم من سقوط الأيديولوجيات القومية والدينية في العصر الحديث، بغضّ النظر عن عودة المحاولة لإحيائها، فإنّنا مضطرّون للوقوف عند هزائم كبيرة وعديدة، حروبنا كانت خاسرةً، حتّى ما سعت الأنظمة وإعلامها إلى تصويرها على أنّها حروب رابحة، كنّا نخسر فيها، قبل كلّ شيء خسرنا نهضةً كانت تبزغ من ليل طويل دامس خيّم على منطقتنا قروناً طويلة، خسرنا إمكانيةَ بناء دول كما طمحت هذه الشعوب، خسرنا إمكانيةَ أن نكون فاعلين في ركب الحضارة، خسرنا القدرةَ على مواكبة العالم في تسارعه الرهيب نحو المستقبل، خسرنا إمكانيةَ بناء إنسان يستطيع أن يبتكر حياته بمقوّمات بقائها ونموها، إنسان قادر على أن يفجّر إمكاناته الإبداعية التي لم تنقصه عندما غادر بيئته القامعة، وفجّرها إبداعات وابتكارات عندما توفّرت له الظروف المناسبة والراعية في الدول المتقدّمة. لم تستطع المنظومات السياسية والثقافية والدينية والأخلاقية أن تنتج غير الشخصيات الامتثالية التي لا تمارس غير التلّقي، تلّقي المعارف والحكم والعلوم من سلاطينها، السلاطين التي تحتكر الحقيقة وتفبرك لها نظريات وتعاليم وتشريعات تُبنَى على الولاء المطلق وتقديس النصوص، دينيةً كانت أم دنيويةً، مع تعطيلٍ كاملٍ للعقل. بينما تنمو وتكبر دولةٌ مغتصبةٌ في قلب وجعنا، دولة يحضنها العالم المُتقدّم القوي، فتطوّر نفسها وتصبح دولةً لها مكانتها في علوم العصر وأدواته، دولةً متقدّمةً تقنياً، تمتلك أدوات المراحل المستقبلية المُقبلة، ما زلنا نحن نعيش في ماضينا، ومهما حاولنا السير، فإنّنا نقطع الخطوات في الماضي، والماضي فحسب. لقد أصبحت مقولةُ أنّ القوة تكمن في امتلاك أدوات وآليات إنتاج المعرفة العلمية، وليس منتجاتها فحسب، مقولةً تتكرّر باستمرار، لكن ما ينقصنا حتّى ندخل هذه المرحلة المبنية على هذه الحقيقة هو "الحرّية"، كما قال الكاتب منذر بدر حلوم في مقالته "عن قيد الثقافة الماضوية وعن إيماننا بالنصر" ("ضفّة ثالثة"، 10/9/2024): "من أجل امتلاك آليات إنتاج المعرفة العلمية نحتاج إلى أشياء كثيرة على رأسها الحرّية، وليس آخرها حاضنة اجتماعية".

نحن شعوب نضمر كثيراً من الطاقات الإبداعية، أوصلتنا أنظمتنا المتسلّطة بالقمع وخنق الحرّيات إلى حالة قطيعة مع المستقبل

إسرائيل الماضية بكل فجور في مشروعها الاستيطاني، الذي تظهره في إدارة حربها الحالية، إن كان في قطاع غزّة أو في الضفّة، وحالياً في لبنان، تمتلك أدوات الحرب السيبرانية، ويبدو أنّه يمكن أن تستخدمها بكلّ وقاحة، ولا تهتمّ بالنتائج، كما لم تهتم خلال تاريخها، وخلال حربها الحالية. ونحن شعوب نضمر في دواخلنا كثيراً من الطاقات الإبداعية، لكن أوصلتنا أنظمتنا المتسلّطة بكلّ أشكال القمع وخنق الحرّيات والاستئثار بالقرارات من دون إشراك فئات الشعب كلّها فيها، إلى حالة من القطيعة مع المستقبل والبحث عن الملاذ دائماً في الماضي وفي أساطيره، ورسم صورة مشتهاة لنا، بأنّنا أصحاب حضارة، فأين نحن من حضارة اليوم؟ ... حقوقنا مغتصبة ومنتهكة، نعم، لكن ليس بالإيمان "بقوّة الحق وحدها تنتصر الشعوب، إنّما بامتلاك سلاح المعرفة"، وإلّا لن تغيرنا الهزائم التي مرّرنا بها، ولن نستفيد من دروس خيباتنا، ولن تدفعنا أزماتنا المتلاحقة إلى ترصّد الفرص، "فالأزمة التي تجبرنا على التغيير هي الفرصة التي تمكننا من النمو"، مقولة لم أعد أذكر لمن تنسب. يبدو أن أزماتنا لم تحرّض نزعة التغيير في نفوسنا بعد، فنصبح قادرين على مواجهة التحدّيات وتشكيل وعي مغاير يمنحنا القدرةَ على تصوّر مستقبلنا، كي نبدأ بالحلم، ونحبّ أحلامنا.
لذلك، ما يبرز من مظاهر على السلوك الجماعي في لبنان أمر مفهوم في ظلّ هذه الظروف كلّها، التي تكلّمنا عنها، فعدم فهم آليات وأدوات إنتاج المعرفة، يجعل التعامل مع الحاضر في غاية الحذر، والتفكير في المستقبل في غاية القلق والخوف، وهو ما ينتج عطالةً مدمّرةً على صعيد الشعوب.