أوكرانيا .. الشجرة التي تخفي الغابة
يصعب التكهن بمآل الغزو الروسي لأوكرانيا في ظل التعقيدات الجيوسياسية للأزمة. صحيح أنّ هناك فرقاً كبيراً في القدرات العسكرية بين الجيشين، الروسي والأوكراني، إلّا أنّ دخول القوى الدولية الكبرى على الخط، وتهديدَ الأزمة التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية في أوروبا والعالم، والتكلفة المادية والإنسانية الباهظة المتوقعة للحرب، ذلك كله قد يربك روسيا أكثر، أمام حزمة العقوبات التي تنتظرها، فالمضي في تنفيذ استراتيجيتها القاضية بوقف تمدّد حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو حدودها، قد يدفع الأمور إلى الخروج عن نطاق السيطرة بالنظر إلى الحسابات الجيوسياسية المعقدة، ولا سيما أنّها لا تمتلك اقتصاداً قوياً قادراً على رفع التحدّيات التي تواجهها، على الرغم مما تمتلكه من ثروات طبيعية هائلة.
ليست الأزمة الأوكرانية، في الواقع، إلّا الشجرة التي تُخفي الغابة، فالأمر يتعلق بصراع استراتيجي تتجاوز حدودُه الإقليم نحو البنية الأمنية والجيوسياسية لأوروبا. وتمثل الثقافة السياسية للنخبة الروسية مدخلاً إلى إضاءة جوانب كثيرة من هذا الصراع الذي تمتد جذوره إلى فترة الحرب الباردة، حين كان الاتحاد السوفييتي لاعباً رئيساً في السياسة الدولية. ومن هنا، يعتبر فلاديمير بوتين ابناً شرعياً للمدرسة السوفييتية، بتصلّبها العقائدي والإيديولوجي والسياسي، وقد كان شاهداً على تفكّك الإمبراطورية السوفييتية. ولذلك ما فتئ يعتبر زوال هذه الإمبراطورية ''كارثة جيوسياسية'' فتحت الباب على مصراعيه أمام الغرب للهيمنة على النظام الدولي. وطوال العقدين المنصرمين، لم يألُ بوتين جهداً في إعادة بناء الدولة الروسية ذات الجذور القيصرية والستالينية، وتحديد أولويات الأمن القومي الروسي بما يضمن عودة روسيا إلى سابق عهدها، إبّان الحرب الباردة، قوة عظمى مهيبة الجانب. بيد أنّ ذلك كان يتطلب، وفق رؤيته، تحصين الجبهة الداخلية باجتثاث الحركات الانفصالية في الجمهوريات الروسية وترويض المعارضة، والسعي لإقامة تحالف استراتيجي مع الصين، وبناء تحالفات جديدة في المناطق ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية، ضمن مشروع لإعادة تحديد الدور الروسي في معادلات القوة والنفوذ في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وحوض المتوسط والساحل وجنوب الصحراء. وكانت الأزمة الجورجية (2008) إشارةً دالةً من الروس على رفض أي مسّ من الغرب بمجالهم الحيوي.
في المقابل، يبدو واضحاً أنّ الغرب غير مستعد للتورّط المباشر في الأزمة الأوكرانية لعدة أسباب، أبرزها عدم توافق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على استراتيجية موحدة لمواجهة روسيا، فمن مصلحة الولايات المتحدة تحويل الحرب، التي أرادها بوتين عملية عسكرية خاطفة، إلى حرب استنزاف تذكّر الروس بكوابيس الغزو السوفييتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، فيما ستكون تداعيات الحرب على أوروبا وخيمة، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والإنساني.
تبرّر روسيا اجتياحها أوكرانيا بالتمدّد المتواصل لحلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً نحو حدودها، وترى في ذلك تهديداً لأمنها القومي. وبالتالي، تطالب قادته بالتخلي عن فكرة ضم أوكرانيا إلى الحلف، وتحجيم قواته في الدول التي كانت جزءاً من المعسكر الشرقي إبّان الحرب الباردة، غير أنّ ذلك يخفي هدفاً استراتيجياً آخر يسعى له الروس، إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب لا تكون فيه الهيمنة للغرب، بمعنى إعادة رسم ميزان القوى العالمي على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنّ إقامة هذا النظام لا يبدو رهيناً فقط بالنزعة السلطوية البادية في سلوك الرئيس الروسي، بل أيضاً بوجود فاعلين آخرين، وفي مقدمتهم الصين التي تبدو معنيةً أكثر بتحصين صعودها الاقتصادي، ما قد يعني تحفظها من بعض مخرجات السياسة الروسية.
ما يحدُث في أوكرانيا يُخفي وراءه حرباً باردة ضارية على النفوذ والقوة ومصادر الطاقة. ويدرك الروس أنّ فشلهم في استخلاص العائد السياسي من حملتهم العسكرية على أوكرانيا سيكون مكلفاً جداً على المدى البعيد، بسبب تداعياته على الداخل الروسي ونفوذهم الذي يتخطّى بالتأكيد المجال الحيوي الذي يشكّله حزامُ الجمهوريات السوفييتية السابقة.