أوروبا وحربُ الغاز الجديدة

20 أكتوبر 2022
+ الخط -

على الرغم من التراجع الطفيف الذي سجلته أسعار الغاز في أوروبا، مطلع الأسبوع الجاري، إلا أن لا شيء ينبئ بعودة الاستقرار إلى أسواقه، بسبب حالة عدم اليقين التي تسود السياسات الاقتصادية نتيجة تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الإمداد الروسي من هذه المادة الحيوية.

ومع دخول هذه الحرب شهرها الثامن، يخيم شبحُ أزمة طاقة عالمية، يعيد إلى الأذهان ما عاشته البلدان الصناعية الكبرى إبّان الأزمة النفطية قبل زهاء خمسة عقود. ويواجه الاتحاد الأوروبي مأزقا حقيقيا نتيجة فشل دوله في التوافق على آلياتٍ واضحةٍ تسمح بتسقيف أسعار الغاز، بعد أن شهدت، في الآونة الأخيرة، ارتفاعا غير مسبوق نتيجة توقف الإمداد الروسي ردّا على العقوبات الاقتصادية الغربية. ولعل ما يزيد من حدّة هذا المأزق تباين الحسابات الأوروبية والأميركية في هذا الصدد، على الرغم من تطابق المواقف السياسية للطرفين بشأن الأزمة الأوكرانية. وتثير التسعيرة المرتفعة للغاز، التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول الأوروبية، انتقادات واسعة في أوروبا، إلى درجة أن بعضهم اعتبر ذلك محاولة أميركية صريحة للسيطرة على أسواق الغاز في أوروبا واستخلاص العائديْن الاقتصادي والسياسي للأزمة الأوكرانية، بما يعزّز موقعها في النظام الدولي، ويمنحها هامشا أوسع في إدارة تحالفاتها بعد نهاية الحرب. ويدرك الساسة الأوروبيون جيدا أن البُعد الجغرافي للولايات المتحدة عن حلبة الصراع يجعلها أكثر براغماتية في التعاطي مع منعرجات الحرب، سواء في شقّها السياسي أو الاقتصادي.

أخفقت دول أوروبا، طوال الأشهر الفائتة، في إيجاد حلولٍ عمليةٍ لأزمة الغاز الروسي. وقد نجح الروس في إحداث حالة من الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي في جوارهم الأوروبي، فقد أصاب نقصُ إمدادهم من الغاز منخفض التكلفة القطاعات الصناعيةَ الحيويةَ في أوروبا في مقتلٍ، ما أفضى إلى ارتفاع الأسعار، وتزايد معدل التضخّم، وتدهور القدرة الشرائية لفئاتٍ اجتماعية واسعة، وتراجع الطلب على السلع والخدمات، وارتفاع تكاليف القروض الموجّهة لتمويل المشاريع الاقتصادية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة. ولا تبدو السياسات المالية والنقدية الحالية قادرةً على الحدّ من تداعيات الأزمة. ويمكن القول إن ذلك كله بات يهدّد نمط الحياة الأوروبي الذي ساد عقودا. وهو النمط الذي اتسم بالاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي شكّلت الطبقة الوسطى عصبه الأساسي. ولعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لم يجانب الصواب حين قال، قبل فترة، إن عصر الوفرة قد انقضى، بما يحيل إليه ذلك من نموذج مجتمع الطبقة الوسطى الذي قامت عليه الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. يجد هذا النموذج قاعدته الاقتصادية في الشركات المتوسطة والصغرى التي تجد نفسها اليوم أمام شبح الإفلاس، بعد ارتفاع تكلفة الغاز الذي يُعدُّ عنصرا أساسيا في مختلف أنشطتها.

من المرجّح أن يؤدّي هذا الوضع إلى حدوث اضطراباتٍ اجتماعيةٍ واسعة، تعجز منظومة الديمقراطية الليبرالية عن مجابهتها. وربما تكون المظاهرات الحاشدة التي شهدتها فرنسا، الثلاثاء الماضي، احتجاجا على زيادة التضخّم وللمطالبة بالزيادة في الأجور ومساعدة الفئات المتضرّرة، مقدمة لاحتجاجات أخرى قد تختلط فيها الأوراق. فمن جهةٍ، تخشى حكومات الاتحاد الأوروبي أن تؤثر الأزمة الاقتصادية على دعم الشعوب الأوروبية سياساتها القاضية بتقديم الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا في مواجهة روسيا التي تساومها في ملف الغاز، وتختبر مدى قدرتها على التحمّل، خصوصا مع حلول فصل الشتاء وغياب بدائل للغاز الروسي في ظل تزايد الطلب العالمي. ومن ناحية أخرى، سيساعد هذا الوضع تنظيمات اليمين المتطرّف في أوروبا على ترويج طروحاتها، بتغذية شعور الطبقات الفقيرة والوسطى بأنها تدفع ثمن الحرب الروسية الأوكرانية، في وقتٍ تتجنّب السياسات الاقتصادية المتبعة الإضرار بمصالح الرأسمال والشركات الكبرى، من خلال الحفاظ على أنظمةٍ ضريبيةٍ تحابي الأغنياء على حساب الفقراء الذين تتسع رقعتهم يوما بعد يوم في عدد من دول القارّة.