أورام إبراهيم الكوني
لا بأسَ من بعض التسامح مع اعتدادٍ زائدٍ في الذات، تلقاه عند كثيرين من كتّاب الأدب. لا بأسَ من "تفهّم" شيءٍ من النرجسية عند بعضِهم، وإنْ بحدود. وهناك من يمرّر، لبعضٍ آخرين، مقدارا من الادّعاء فيهم. لا ضرَر (أو لا ضيْر؟) من قليلٍ أو كثيرٍ من هذا كله. ولكنّ ما تُصادفه مما تقرأ للروائي الليبي، إبراهيم الكوني (74 عاما)، من تعاليق وأقوال ومقالاتٍ عن نفسه، منذ سقط معمّر القذّافي في العام 2011، لا ينتسب إلى تلكم الأعراض التي في الوُسع التجاوز عنها، إذ يبدو صاحب الثمانين كتابا (ربما أكثر) مأخوذا بنفسِه إلى حدٍّ يجيز الدعاءَ له بالشفاء، وهو الذي يرى في أي نقطة نظامٍ بشأنه، أو انتقادِ زعمٍ جهَر به، حملةً تستهدفُ شخصَه، أو "هجمةً مسعورةً"، بتعبيره في مقالٍ له نشرَه موقع إماراتي الأسبوع الماضي، في سياق واقعةٍ مفتعلة، موجزُها أن الكاتب المصري، أحمد شوقي علي، أعاد، قبل أيام، نشر مقاطع من مقابلةٍ أجراها مع الكوني، ونشرها في موقع "المدن" في 2016. وقد عرّف صاحب "الفزّاعة" (رواية له صدرت في 1998) قرّاء مقالته بأنه خرج أخيرا من المستشفى (بعد حادث سيْرٍ تعرّض له). وعجيبٌ أن يُفاجئه استهجانٌ قوبل به كلامُه غير القديم، والذي ثمّة مثله تالٍ له وسابقٌ عليه، سيما وقد بلغ زهوُ صاحبِه بنفسه أن يقول "أنا من صنعتُ لليبيا مكانا في العالم"، و"لا أخجل من أن أقول إن وطني هو سويسرا".
يقيم الرجل في جنيف منذ عقود. ارتحل إليها برغبةٍ من معمّر القذّافي على ما تردّد، ومصروفُه الشهري هناك من الدولة الليبية سنواتٍ طويلة، ما لم يكن ممكنا من دون رضى القذّافي عنه. وقد أفاد مرّة بأنه يحيا حياةً كريمة من وظيفته منذ 1965 في زمن الملكية في ليبيا (!)، وإن استطرد "هل من المعيب أن يقدّر رئيسُ دولةٍ قيمة إنسانٍ حمل راية الوطن في العالم، وحاز 15 جائزة عالمية". ولم يكن أحدٌ يطالب إبراهيم الكوني بأن يكون في عهد العقيد المخلوع مناضلا نحريرا ضدّه، ولا داعيةً من أجل الديمقراطية في ليبيا، فلا يليق أن يُعطِي واحدُنا دروسا للآخرين، فيطالب الكتّاب في سورية وليبيا والعراق، إبّان حافظ الأسد والقذّافي وصدّام حسين، بأن يكونوا فدائيين، غير أنه درسٌ من المهمّ أن يسمعَه أيّ مدّعٍ يُضجرنا بكذبه، أنّ لمّ نفسِه أحسنُ له. والكوني لم يشرب حليب السباع إلا بعد أسابيع من قيام الثورة الليبية، لمّا أيقن أن جليسه سنواتٍ، القذّافي، ساقطٌ لا محالة.
وصف صاحب "الدّمية" (رواية له صدرت في 1998) نفسَه في حوار مع قناة العربية (2016) بأنه كان العدو رقم واحد للقذّافي، وإنه كان مطارَدا من أجهزة الأمن بشراسة، فيما كان يقدّم النصائح للقذّافي في لقاءاتهما. و"كان يُصغي إليّ باهتمام، ويحترم كل آرائي، ولم يعارضني على الإطلاق". وكان الكوني، قد قال لسامي كليب في "الجزيرة"، في 2009، إنه يلتقي دائما القذّافي الذي "يعلم أننا قد نختلف في الرأي، ولكنه لم يُجبرني على اعتناق آرائه في يومٍ من الأيام". والقصّة باختصار هنا أن للكاتب الليبي المعروف (العالمي في وصفِه نفسَه) أن يلقى التقدير من القذّافي، أو يكون هذا صديقا له إذا شاء، غير أن عليه، في الوقت نفسه، أن يكفّ عن تظهير نفسِه "الوحيد الذي كان يحمل روحه على كفّه في ليبيا"، وصاحب نبوءةٍ في قيام الثورة. عليه أن يتواضَع، بل أن يعتذر للشعب الليبي عن صُحبته الطيبة تلك مع العقيد المقتول. وبصراحة أكثر، عليه ألا يطلب منا أن نظنّه صادقا في كل ما يقول عن "نصائحه" التي كان يسمعها منه القذّافي، الذي يبدو رجلا يفيض سماحةً وتسامحا مع "ثورية" صاحب نصوص "وصايا الزمان" (1999).
ثَرثر إبراهيم الكوني كثيرا، بعد 2011 عن بطولاته وثوريّاته وتقدميّته. ولم يكن يعرّفنا بشيءٍ منها قبل هذا. والراجح أن ثرثراته هي التي تُرينا الأورام النرجسية مزمنةً في شخصه، من قبيل قوله مرّة "أنا روح ليبيا، أنا ضميرُها، والعالم يعرف ليبيا من خلالي". وليس مفاجئا أن يقول أيضا في الأثناء إن وطنه سويسرا، وهو الذي كتب روايةً سمّاها "الورم" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008)، قال إنها اعتُبرت في أوروبا بمثابة توقّع ليس ما حصل في ليبيا فحسب، بل في العالم العربي كله. فيها فائضٌ من الثرثرات المعهودة في أعماله الكثيرة، وفي صاحبها خُيلاء، وذاتٌ هادَنت الاستبداد عقودا، من جنيف وغيرها، وقد ترى في السطور أعلاه مقطَعا من "الهجمة المسعورة" إياها.