أنقرة في اليوم التالي للحرب
تمدّدُ الحرب في الشرق الأوسط تخشاه الدولُ ذات الصلة، ربما باستثناء إسرائيل التي قد تكون حرب غزّة فرصةَ أخيرة في المدى المنظور لتصفية حساباتها مع خصومٍ آخرين. لو وضَع الوغى أوزارَه، سيتعسّر فتحُ جبهةٍ جديدة. تصفيةُ الحسابات وبقية الاستحقاقات الداخلية الإسرائيلية من جهة وتضخمُ دائرةِ معارضي الحرب الدوليين والإحراجُ الأميركي من جهة أخرى عقباتٌ أمام جبهات جديدة، إنْ بردت جبهةُ غزّة. هنا، تتحرّك واشنطن دبلوماسياً كي تحول دون ذلك. تختلف مقاربتُها عن مقارباتٍ أخرى. ترى أن لإسرائيل الحق في عملياتها، وعلى أساس هذه المقاربة، تريد عدم اتّساع الحرب. آخرون، حلفاء أو خصوم أو منافسون، يؤشّرون على أن ذلك رهن بوقف إطلاق النار.
على أي حال، قد لا تتسع الحرب. ربما تنفلت الأمور فتتمدّد. لا أحد يعلم. المعلوم أن الصراع بأدوات عديدة واسعٌ شرق أوسطياً، وأن أطرافَه كثيرة وشبكاتِه معقدة. إيرانُ ولايةِ الفقيه وإسرائيلُ نتنياهو ليستا كفتي التعقيدِ الوحيدتين. تركيا، مثلاً، حليفٌ موثوق لحركة حماس، ولها أيضاً علاقاتٌ جيدة بإسرائيل. صحيحٌ أن الروابط شهدت دورات فتور وتصعيد، لكنها ظلّت في حدود تصريحات حادّة متبادلة قبل عودة المياه إلى مجاريها. تحدّث الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، عن احتمال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنقرة خلال شهر أو اثنين. الحرب منذ 7 أكتوبر سبقت التحضيرات. عاد التوتر وعادت لهجة التصعيد.
السياق العام في بيئة الشرق الأوسط منذ بداية القرن هو نشوبُ الحروب في خواصرَ ضعيفةٍ فتصير طاولةً يتجالس إليها أقوياء المنطقة والعالم المتحالفون والمتخاصمون والرماديون. وضْعُ غزّة المخيفُ والمفزع ومستقبلُها المجهول، يسعى الأقوياء الإقليميون والدوليون لتحديد مساراته وتوظيفِه في ملفات أخرى. ترغب إيران في مقعد إلى طاولة التداول العالمي عن فلسطين، ولتركيا مقعد أساساً. في جولته الإقليمية الرابعة منذ اندلاع الحرب، ركّز وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على أربع قضايا: إبداء الحرص على عدم تمدّد الحرب، ومن ثم مواجهة الحوثيين، التأكيد الصريح أول مرّة أن أهل غزّة لن يغادروها، في موقف يمثل تراجعاً عن تسريباتٍ بشأن خطط سابقة. المسألة الرابعة اليوم التالي للحرب، أي ما بعد انتهاء المواجهات. يدخل في اليوم التالي موضوعُ إقامة دولة فلسطينية الذي أبداه نصّاً في مؤتمره الصحافي في تل أبيب. ومنها الأدوار الإقليمية في غزّة.
فرضيةُ أن إسرائيل حصراً مَن سيقرّر المستقبلَ بعيدة، رغم أنها على الأرض مَن يقصف ويقاتل
بدأ الوزير الأميركي جولتَه بأنقرة. من هناك، في مؤتمر صحافي مختصر في أثناء مغادرته، شدّد على علاقات تركيا بالأطراف المعنية، في إشارة إلى "حماس". أنْ تكون الحركة أقربَ لأنقرة من طهران مفيدٌ للأميركيين. ويقول، في الأثناء: "تحدثنا عن الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في يوم غزّة التالي، في ما يتعلق بالمسائل الصعبة، الحكمِ والأمنِ وإعادةِ الإعمار".
لتأكيد الدور التركي في "اليوم التالي" للحرب دلالة. قد تُقرأ بأن هناك أثماناً ستحصل عليها تركيا مقابل تنازلاتٍ، خصوصاً أن بلينكن توجّه بعدها إلى اليونان، ما يمكن قراءته على أن في جعبته مشجّعاتٍ بعضُها متصل بالنزاع بين أنقرة وأثينا. هناك من يتحدّث عن إكمال حصول تركيا على طائرات F16 ومكاسبَ متعلقة بالصراع شرق الفرات مع المجموعات الكردية السورية والتركية. لا أظن الأمر كذلك. هذه المسائل متعلقة بأزماتٍ أخرى، كعضوية السويد في حلف الناتو، والحرب الروسية الأوكرانية. استحقاقات الحرب في غزّة مختلفة، والمقابلُ أن تكون أنقرة لاعباً مباشراً في القطاع. في النقاط التي تحدّث عنها بلينكن، الأمن والحكم والإعمار، أظن الدلالةَ.
بصرف النظر عن قدرة أنقرة على لعب دور، ليس جليّاً بعد ما إذا كانت رؤية واشنطن إلى غزّة بعد الحرب متّسقة مع نظرة تل أبيب، خصوصاً أن الأخيرة ليست موحّدةً داخلياً لبناء تصوّر محكم عن القطاع بعد الحرب، وعن أين يجب أن تقف المعارك ومستقبلِ سكّانها. فرضيةُ أن إسرائيل حصراً مَن سيقرّر المستقبلَ بعيدة، رغم أنها على الأرض مَن يقصف ويقاتل. المواقف الأميركية، كما البريطانية، بعيداً عن تسريباتٍ مضلّلة هنا وهناك، تتركّز في السماحِ لإسرائيل بأن تقوم بما تريد الآن ضمن لافتةٍ هدفها المعلن "القضاء على حماس"، ولا تشمل مرحلة ما بعد الحرب. يؤشّر خطاب "اليوم التالي" على أن واشنطن تعمل على ترتيبِ أوراقٍ مع حلفائها لتبلور تصوّراً عن مستقبل غزّة، وليس التصوّر الإسرائيلي الخالص.
المشكلة مع إسرائيل بالنسبة إلى أردوغان ليست أبعدَ من فترة قصيرة. المهم الحصول على موطئ قدم
قد يكون هذا مغرياً لتركيا. أن تنشط مباشرةً هناك، حتى لو كان يعني تخلّياً في بعض الحالات عن الحليفِ الأيديولوجي، حماس، لصالح رؤيةٍ براغماتيةٍ تهَب أنقرة مكانةً في الداخل الغزّاوي، سواء سياسياً أو اقتصادياً. عليه، تضمن واشنطن تراجعَ النفوذ الإيراني لصالح "المعتدلين". الحال محكومٌ بمساراتِ الحرب نفسِها ورهنٌ بألا تنفلت، ومقيَّدٌ بأولويات أنقرة المُعرّفة بموجب تصوّرات أردوغان السياسية، وليس الثوابت. تخلّت تركيا مراراً عن حلفاء. نكثت عهودها كثيراً. خفّفت من وعيدها باستمرار. تحاورت مع نظام الأسد في سورية بعيداً عن لغة التصعيد "الأخلاقية" السابقة. اختزلت دعمَها المعارضين المصريين في سياقات محدودة. رتّبت أوراقَها مع اليونان. رطبت أجواءً صلبة مع السعودية. قابلت فرنسا بالود بعد عداء بعنوان الإسلام. وتبادلت مع إسرائيل السلام أكثر من مرّة رغم التصعيد في الأثناء. في النهاية، المشكلة مع إسرائيل بالنسبة إلى أردوغان ليست أبعدَ من فترة قصيرة. المهم الحصول على موطئ قدم. يوم غزّة التالي، كما تحدّث بلينكن في جولته، فرصة.
تتركّز جولة وزير الخارجية الأميركي في حلفائها. لا زيارة للعراق الذي يسعى الإيرانيون لتوظيفه في الصراع، ولا للبنان. هذان البلدان، إلى جانب اليمن وسورية، مناطق محتملة لاتساع رقعة المعارك الجادّة. الأتراك، كما الخليجيون ومصر، لا يتحكمون بها. لذلك، لا يظهر الحال أنه مركز على استحقاقات النزاعات في تلك البلدان. غالب الظن أن ثلاثية الحكم والأمن وإعادة الإعمار سياق التداول مع وجهات الجولة الدبلوماسية. نقطة الحسم في هذا إبعادُ ما سيبقى من حركة حماس، وتحديداً "حماس" الخارج، عن إيران لصالح ترتيبات مع الحلفاء العرب وتركيا الذين يبدو أنهم مطلوبون للمساعدة عبر لعب دورٍ في اليوم التالي.
غير أن أمام أي نشاط تركي مباشر في المعادلة الفلسطينية عموماً والغزاوية خصوصاً عقبتين. في جانبٍ، هناك الدور الإيراني الذي يقدّم غير المتاح لدى آخرين، السلاحَ ودعمَ الأنشطة العسكرية ضد إسرائيل. لا تركيا ولا مصر ولا السعودية ولا قطر ولا الأردن متاحٌ لها أن توفّر سلاحاً. لذلك، ستواصل أيّ قوّة فلسطينية المواجهة المسلحة، ولن تجد ما تودّ لدى تركيا والدول الأخرى. ليس الأمر مثل سورية، حيث إن التدعيم المسلح للجماعات المعارضة من مليشيات وقوى سياسية لا يزال مقبولاً شرط عدم وصول السلاح إلى "داعش". في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أيّ دعم مسلح سيواجه عواقب حادّة ومخاطرَ قانونية دولية لن تُقدم على التراقص معها غير طهران المعتادة سياسة "خارج الشرعية".
تشي التحرّكات الأميركية بأن واشنطن قد تكون أدركت أن هدف القضاء على "حماس"، المطروح من نتنياهو، غير قابل للتحقق
العقبة الأخرى أن القوى الإقليمية المنافسة على لعب دور في الضفة الغربية وقطاع غزّة لها حضور جغرافي ولوجستي وديمغرافي أوضح وأقرب للفلسطينيين من تركيا. هناك مصر اللاعب الأهم والمجاور، الذي يبدو أنه سيعمل على تقليص احتمالات أن تؤدّي الحرب أو أي أزمة لاحقة إلى تداعياتٍ مباشرة عليه، خصوصاً فكرة تهجير سكّان غزّة إلى سيناء المروّعة. توجد السعودية المهدّدة بصورة مباشرة بفعل نشاط الحوثيين في البحر الأحمر، وأيضاً لأنها تسعى لتسوياتٍ إقليميةٍ، تقلّص من النشاط الإيراني عبر الأذرع المسلحة.
مهما يكن، فالنشاطات المحتملة للأطراف المتناشزة رهنٌ بمستقبل الواقع العسكري المقبل. تشي التحرّكات الأميركية بأن واشنطن قد تكون قد أدركت أن هدف القضاء على "حماس"، المطروح من نتنياهو، غير قابل للتحقق. بالطبع، مثل هذا الهدف بعنوان أن الحركةَ تنظيمٌ إرهابي يبدو غيرَ واقعي، فحتى التنظيمات المتفق أنها إرهابية لم يكن القضاء عليها ممكناً حال وجود أسباب موضوعية وبيئة حاضنة.
مع هذا، يمكن أن يؤدّي البحث عن لاعبين إقليميين بأدوار سياسية إلى احتواء الأهداف غير الواقعية لدى أطراف النزاع، إسرائيل وحلفائها و"حماس" وحلفائها. ويبقى الأمر مقيّداً بقدرة واشنطن على بلورة رؤيةٍ بعيداً عن الانحياز الكامل، وقابليّتها على إقناع حلفائها برؤيتها. المؤكّد أن تركيا لن تفرّط بما كسبته شرقيّ المتوسط وعلاقات البحر الأسود وسورية والقوقاز، بل تبحث عن حدائق جديدة لدورها.