أنظار نحو السعودية ومصر والأردن وتركيا
بعد مرور ثلاثة أسابيع على الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة، وبصورة جزئية على الضفة الغربية المحتلة (سقط فيها من الضحايا 103 وأسيران حتى كتابة هذه السطور)، فإن الردود السياسية والدبلوماسية العربية لم تنجح بعد في وقف آلة الحرب الوحشية التي تستهدف المدنيين والمرافق المدنية، ابتداء بالبيوت ومرورا بالمستشفيات وليس انتهاء بدور العبادة. نجحت القاهرة في تنظيم لقاء حاشد تحت عنوان "القمّة الدولية للسلام"، غير أن الأطراف الغربية تمسكت بموقفها الممالئ لتل أبيب، ورفضت توجيه نداء إلى السلام. ونجحت السعودية في تنظيم لقاء طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي، خرج ببيان قوي ضد الحرب وضد أهدافها الرامية إلى إلحاق التدمير بمظاهر الحياة في القطاع وتهجير سكّانه، غير أن هذا اللقاء، على أهميته، لم يعيّن خطواتٍ لاحقة لمتابعة الوضع والتفاعل معه. وإلى ذلك، نشطت اتصالاتٌ عربيةٌ ثنائيةٌ لمواجهة الوضع المتفجر، فيما بادر مسؤولون غربيون إلى إجراء زيارات عاجلة بدأت في تل أبيب للتضامن مع الدولة المعتدية وشدّ أزرها قبل الانتقال للعواصم العربية المعنية، وهو ما طبع زيارات الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد هيمنت هذه الجولات على الحراك الدبلوماسي في المنطقة. وقد لوحظت درجة عالية من التحجّر لدى المسؤولين الغربيين الذين تمسّكوا بمقولة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع الدعوة اللفظية إلى احترام القانون الدولي في هذه الحرب، ومن غير إدانة للهجمات اليومية الوحشية ضد المدنيين في غزّة.
بموازاة ذلك، نشطت المجموعة العربية في الأمم المتحدة، وتحرّكت تحت عنوان رئيس، وقف الحرب وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. ورغم ذلك، لم تتزحزح الولايات المتحدة عن موقفها المؤيد للحرب واستمرارها، مع رفض إدانة جرائم الحرب المرتَكبة ضد المدنيين. ويعكس مشروعها الأربعاء الماضي الذي جرى إفشاله في مجلس الأمن عدم النزاهة وتبلّدا في الإحساس تجاه آلاف الضحايا. وبينما أفشل الفيتو الصيني والروسي مشروع القرار، خرج الرئيس جو بايدن بعد ساعات يردّد كلاما إسرائيليا مفاده بأنه لا يثق بالإحصاءات الفلسطينية لأعداد الضحايا من دون أن تثير مشاعره الفيديوهات والصور لآلاف العائلات الثكلى. وبينما يتواصل الحديث عن حربٍ برّية، برّأ بايدن إدارته من أن تكون سببا في "تأجيل" هذه الحرب، وذلك لطمأنة مجرمي الحرب في تل أبيب بأن واشنطن سوف تظلّ اليوم وغدا وكما بالأمس تؤيد ما تقترفه آلة الحرب الإسرائيلية باعتبار ذلك دفاعا عن النفس، علما أن الدولة العبرية قوة محتلة، والاحتلال بحد ذاته اعتداء على الرازحين تحت وطأته، كما أنه، بطبيعته، يتخذ صفة هجومية، فكيف حين يفتك بالمدنيين؟ وقد تناسى بايدن، خلال ذلك، أقواله المعسولة التي طالما ردّدها هو وأركان إدارته عن تدابير متساوية يستحقّها الإسرائيليون والفلسطينيون في سبيل كرامتهم.
الأسوأ في الحرب على غزّة استهداف البيوت والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، مع قطع إمدادات الماء والكهرباء والوقود، بما يضعها في عداد إرهاب الدولة
أمام ذلك كله، ونظراً إلى أن الأسوأ في هذه الحرب هو ما يحدًث فيها منذ يومها الأول، باستهداف البيوت والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، مع قطع إمدادات الماء والكهرباء والوقود، بما يضعها في عداد إرهاب الدولة. ولأن استمرار هذه الحرب يُضاعف من حجم الكارثة الإنسانية، أوَقع غزوٌ برّي أم لا، لا بدّ أن تتركّز الجهود العربية والإسلامية على وقف الحرب، إذ يعدّ توقّفها أفضل وسيلة لمنع امتدادها إلى ساحات أخرى، ويسمح للمساعدات الإنسانية أن تعبر مع أقل العوائق خطورة.
ويستذكر المرء أن قطاع غزّة قد شهد من قبل خمس حروب منذ الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، انتهت بهدناتٍ أعقبها وقف إطلاق نار ثابت. وكان لمصر آنذاك دور مشهود في التوصل إلى هذه الاتفاقيات. وهو ما يتطلب مضاعفة الجهود وتشديدها بهذا الاتجاه، وبخاصة من الأطراف العربية والإقليمية الفاعلة، والتي تتأثر بصورة مباشرة بحكم الجوار الجغرافي والسياسي بما يجري، وفي مقدمة هذه الدول السعودية، ذات الوزن والشأن في المنطقة، والتي كان لديها مشروع مشروط للتطبيع مع تل أبيب، والتي تتمتّع بعلاقات تاريخية مع الولايات المتحدة، إلى جانب علاقاتٍ قويةٍ مع الصين وروسيا، وأخرى متينة مع فرنسا وبريطانيا. بوسع الرياض الدعوة إلى قمة طارئة باعتبارها تترأس القمّة العربية، وبوسعها أن تنشط على نطاق ضيق ومؤثّر، بالدعوة الحازمة إلى وقف فوري للحرب بالتفاهم والتنسيق مع مصر، وهي الدولة الفاعلة الأخرى. إذ يطوي وقف الحرب المشروع الصهيوني اقتلاع أبناء غزّة من وطنهم ودفعهم إلى سيناء، وهو ما يرفضه رفضا حازما وقاطعا الجانبان المصري والفلسطيني. ومن شأن الوقف الفوري للحرب منع تمدّدها إلى ساحاتٍ أخرى، والحد من التفاعلات الشعبية الساخنة. ويحول وقف الحرب دون احتكاكات عسكرية. وتسمح عودة الهدوء بتنشيط الحياة الاقتصادية، ومنها السياحة. وتقوم بين القاهرة وتل أبيب علاقات دبلوماسية، فيما تحتفظ القاهرة بصلاتٍ مع حركة حماس، بحكم الجوار، وعلى إيقاع المواجهات العسكرية السابقة في القطاع.
لم تتزحزح الولايات المتحدة عن موقفها المؤيد للحرب واستمرارها، مع رفض إدانة جرائم الحرب المرتَكبة ضد المدنيين
والدولة الفاعلة والمهمة الأخرى هي الأردن الذي أخذ يدعو، في الأسبوع الثاني للحرب، إلى وقفها، وليس إلى خفض التصعيد، والأردن على تماسّ مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على حدوده الغربية والشمالية، ويقع الأردن في دائرة الاستهداف الإسرائيلي المباشر، سواء بمخاطر تهجير أبناء الضفة الغربية، أو تحويل أساطير عقائدية إلى مشروعات سياسية تقضم الكيان الأردني.
تضاف للدول العربية الثلاث الجارة الكبيرة تركيا التي ما زالت ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع تل أبيب، تعزّزها علاقات اقتصادية في مجالي التجارة والسياحة، وقد اتخذت أنقرة موقفا حازما ضد الحرب، ووجهت نقدا مباشراً وقوياً ويوميا لتل أبيب. وهي تحتفظ بعلاقات سياسية مع السلطة الفلسطينية وحركة حماس، وتتمتع بعلات متنامية مع دول الخليج ومع مصر، وقد نشطت دبلوماسيتها في الأسابيع الماضية، وتقدمت باقتراحات سياسية ملموسة تقوم على الدعوة إلى مفاوضات فلسطينية إسرائيلية تستند، بين أمور أخرى، إلى ضامنين للطرفين. علاوة على كونها عضوا في حلف الناتو، وترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا والصين.
سيكون حدثاً فارقا أن تلتقي الدول الأربع على أعلى مستوى ممكن وفي أقرب الآجال، من أجل توجيه رسالة حازمة إلى تل أبيب وواشنطن، بأن استمرار هذه الحرب الوحشية يشكل عاراً على المجتمع الدولي، ويهدد الاستقرار في المنطقة، ويؤدّي إلى اضطراب العلاقات الدولية، ويهدّد الاقتصاديات، ويُنذر بسيادة منظور مفاده بأن ثمّة حربا "صليبية" جديدة، غربية إسرائيلية تقع على العرب والمسلمين، وهو ما حذّرت منه الأردن وتركيا، وسوف يترك اللقاء الرباعي بحد ذاته في الرياض أو القاهرة اهتماماً فائقاً، فيما ستثير الرسالة السياسية المنبثقة عنه صدى كبيراً وتفاعلاتٍ سياسية أكبر، وبخاصة إذا ما اقترنت بإجراءاتٍ "أولية" نحو تل أبيب بالذات.