أنبياء الرأسمالية الجدد

02 يونيو 2023
+ الخط -

كسر اعتزالُ أوبرا وينفري قلبي، أنا التي تمنّيتُ طوال حياتي أن أُحاورها أو تحاورني. قليلون في المنطقة العربية من يخرُجون متحدّثين عن أثرها فيهم. كيف غيّرت برامجها حياتهم أو حياتهن. كنتُ أمرّ بمرحلة فراغ، وأقضي وقتاً طويلاً أمام التلفزيون، لحسن الحظّ، أنه أتى بنتيجة، هي أنني صرت مُتابعةً حريصةً لأوبرا. آمنتُ بشدّة بمقولاتها وتحفيزها، لكن ما المجال لاتّباعها؟ فالواقع هناك غير الواقع هنا. فهناك البنية الاجتماعية والمؤسّساتية تسمح للفرد أن يتقدّم، إذ يسعى إلى ذلك. أما في جلّ الدول العربية، فما من عوامل مساعدة على التطوّر. فحتى إن أردت حفر الأرض والتراب والجدران، قد تجد نفسَك في الحفرة التي بدأت منها. لكن هل أوبرا حقّا تلك الملهمة التي لا ينالها عيب؟

في كتابها "الأنبياء الجدد للرأسمالية"، انتقدت الكاتبة الأميركية نيكول آشوف (Nicole Aschoff) أوبرا، لأنّها أعفت المؤسّسات والدّولة من واجب الرّعاية الاجتماعية، ووضعت على عاتق الفرد مصيره، رغم زعمها الانتصار للضُّعفاء، أحد "أنبياء السياسات النيوليبرالية" الذين يحوّلون انتباه الأفراد من البحث عن تغيير المحيط إلى التركيز على الذات، بخطابٍ مغلّف بالدعوة إلى مراجعة الذّات واعتناق القيم الروحانية. كل ذلك في مجتمع رأسمالي طاحن، عرّفه الروائي الأميركي ديفيد والاس لخرّيجي إحدى دفعات جامعة هارفارد بفصاحة، بأنه يشبه طابور القطيع. ورفض هو الانخراط فيه، ثم رفض الحياة كلها لشدّة حساسيته، فهذا النّظام لا يصلح للجميع، وربما لا يُصلح لأحد، لأنه يقوم على المزيد من العمل لشخصٍ منهك أصلاً. شخص فقد التواصل مع ذاته ولن يستطيع ذلك، طالما يعيش في تلك الدوّامة التي يُدعى إلى الخروج منها، ومن العمل الشّاقّ الذي يمارسه. لكن من سيدفع الفواتير؟

في المقابل، هل على أوبرا أن تكون نبيّة ومرشدة؟ ربما كل ما أرادته أن تصنع "أسطورتها" وتجد لها مكاناً عبر خطابٍ مختلفٍ يقوم على وعي كبير. وبسبب نجاحها، جاءت برامج كثيرة على منوالها. أبرز ما فيها قيامها على الاعترافات، فيتحرّر الفرد من رذائله ومصائبه، بالحديث عنها ثم يبدأ من جديد. تبرُز هنا الفردانية بقوة صادمة، فالفرد يقرّر ما يُعلنه ولا يفكّر في عائلته ومحيطه. حتى لو عنى ذلك فضحهم وتجريسهم. فنتحدّث عن استبداد الفرد وطغيانه، بعدم الاكتفاء بالتحرّر من الآخر والمسّ به.

لم يرق لي يوماً اللّعب على العاطفة المفرطة. مع ثقافة المنح التي قامت بها تجاه بعض الناس في برنامج أوبرا، كانت، رغم أهميتها لهم، مليئة بكثير من استدرار العواطف تجاه حالات رهيبة من الفقر. مع ترويج أساليب السّعي إلى "الحلم الأميركي" بغضّ النظر عمّا إذا كانت ملائمة للجميع. ووضع المسؤولية على عاتق الفرد، فلا شأن للظروف الخارجية في تحديد حياتك، كلّ شيء يكمن في ذاتك وعقلك، سوف تنجح في كسب العمل والثروة وتتجاوز متاعب العيش بمفردك، فمشكلاتك هي نتاج تفكيرك، ولا دخل للنّظام السياسي والاقتصادي فيها. بشعار "التعبير عن حقيقتك هو أقوى أداة تملكها". لكن المشكلة بالنّسبة لها وغيرها من هؤلاء "الأنبياء"، بنظر آشوف، لا تكمن في هذا النّظام بعينه، والحلّ لا يستدعي تغييره بالضّرورة. فهم يسعون إلى تسخير ما حصّلوه من مال وسلطة لتمهيد الطريق لغيرهم لينتشلوا أنفسهم من الفقر والضّعف، ويحاولون تنقيح النظام الذي أنتج ثراءهم، لكنهم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك.

نصحت أوبرا النساء بأن يؤْمِنّ بقاعدة كونية: كل ما ترسلينه إلى العالم يعود إليك. لذا عليك أن تجتهدي بكل قواك، حتى يكافئك الكون. لكن العمل، في هذا السّبيل، لا يتوقف عند أيّ حد، بل لا يمكن فصل العمل عن الهوية. لأنّها أن تقضي جل حياتها وهي تعمل، أو تكون العلاقات من أجل أن تعمل أكثر. لكن آشوف تقول: "لو كانت القدرة على مراكمة رأس المال الاجتماعي والثقافي كافية، لضاقت الفجوة الطبقية في بلد كالولايات المتحدة، بدلاً من تفاقمها". ماذا عمن عجز؟ ألن يشعر باحتقار الذات؟ إذا كنّا في كلّ لحظة قادرين على تحقيق أنفسنا، وإسعادها وتطويرها، فسيُصبح الفقر والحاجة والضّعف، وحتى الحزن والخوف، ذنبنا نحن. فما العمل مع أوبرا أو من دونها؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج