أميركا تائهة في الشرق الأوسط
يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قرّرت تجميد توجهاتها المعلنة خلال الشهور السابقة بالخروج الاستراتيجي من الشرق الأوسط، بالتزامن أيضاً مع تخفيف حدّة خطابها تجاه الصين. وهذا يعني أن السياسات الخارجية العامة للولايات المتحدة لن تشهد انقلاباً عمّا عرفه العالم خلال عهدي الرئيسين السابقين، أوباما وترامب، على نحو عميق، كما أن الشرق الأوسط لن يعرف تغيراً هائلاً في الدور الأميركي تجاهه، خصوصاً الذي عرفه منذ نهاية الحرب الباردة. لكن هذا ليس خبراً جيداً بالضرورة، بل ربما ليس خبراً جيداً بالتأكيد!
بالنسبة للرأي العام العربي، كان الدور الأميركي في المنطقة العربية سلبياً دائماً: يدعم إسرائيل وعدوانيتها، بحجّة حقها في الدفاع عن نفسها، يساند الاستبداد السياسي بالتزامن مع خطابه الممجوج عن الديمقراطية، يتعامل مع المنطقة العربية باعتبارها سوقاً لبيع السلاح بعد عقود طويلة من النظر إليها مصدراً رئيسياً للنفط، ثم لا يتخذ مواقف حاسمة، حتى لدعم حلفائه من الأنظمة العربية في مواجهة خصومهم الإقليميين، مثل إيران وتركيا.
وهكذا، لا جديد أميركياً في الشرق الأوسط من الناحية العملية، بعد إعادة انتشار القوات الأميركية الذي جرى بعيداً عن تسليط أضواء إعلامية كثيرة عليه خلال الشهور الفائتة. لكن الجديد نظرياً أن هذا كله يجري لا على أساس خطة ورؤية بعيدة المدى، بل نتيجة فوضى في الرؤية، إذ ثمّة اعتراف من حلفاء الولايات المتحدة أن "أميركا تائهة"، كما نقل تقرير لمعهد واشنطن كتبه كينيث بولاك ودينيس روس عن أحد المسؤولين في الشرق الأوسط، صوّر الولايات المتحدة كأنها تقول لحلفائها: "لا تتبعوني، فأنا تائهة"!
خلال الشهور الفائتة، بدا كما لو أن الولايات المتحدة تريد تفويض حلفائها الرئيسيين بإدارة شؤون المنطقة عوضاً عنها، وطرح الحلول الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بالنيابة عن واشنطن وبالتنسيق معها، بحيث لا يكون الحضور الأميركي واضحاً ومباشراً، مقابل انشغال الولايات المتحدة بملفات القوى الكبرى من الخصوم والحلفاء، خصوصاً الصين والاتحاد الأوروبي. أما اليوم حين تكون "أميركا تائهة"، فلا يمكن الجزم بأن ذلك كان مقصوداً، على شاكلة الدور الذي تولته مصر في ملف الحرب بين غزة وإسرائيل في مايو/ أيار الماضي.
النتيجة المتوقعة لسلبية واشنطن وصمتها السياسي استمرار معاناة الشعوب العربية
يبدو أن إدارة بايدن تستغرق الآن في عملية إعادة حسابات واسعة لخططها التي فكّرت فيها خلال الشهور الأولى من حكم الرئيس. من المرجّح أنها استنتجت صعوبة مواجهة الصين بطريقة الضغط السياسي والعسكري التقليدية، وبات من الأفضل بالنسبة لها السعي إلى استيعاب الصين وطموحاتها التي ربما لا تكون مؤذية بالضرورة، عوضاً عن مواجهتها على طريقة كسر العظم، لأن مواجهة الصين لا يمكن أن تتم بدون خساراتٍ أميركية فادحة، تنعكس على الاقتصاد الأميركي غير المنتعش حالياً، خصوصاً أن الصين، على ما ظهر خلال الشهور الفائتة، كانت قد أعدّت العدة جيداً لهذا اليوم، ووضعته في حساباتها، واستعدّت للتعامل معه ضمن نهج "النفس الطويل"، بما في ذلك في شأن محاصرتها تجاريا، حيث بدا أنها قادرةٌ على تعويض التجارة الخارجية بالداخلية إلى حد معقول، خصوصاً أنها تملك أوسع سوق داخلي في العالم، نظراً إلى عدد سكانها الكبير، فضلاً عن توفيرها حجماً هائلاً من المدّخرات خلال سنوات الوفرة الماضية، وتنويعها استثماراتها في الخارج.
بإضافة هذا الواقع الأميركي في الشرق الأوسط إلى تراجع قدرة واشنطن بشأن الضغط على إيران حيال ملفها النووي، نظراً إلى تغير موازين القوى في المنطقة عن مرحلة حكم أوباما؛ لمّا أبرم الاتفاق النووي مع طهران، فإن حالة التيه الأميركي ستنعكس على حلفاء واشنطن العرب، في وقتٍ كانوا يتوقعون فيه قطف ثمار انفتاحهم على إسرائيل، على شكل تلقي دعم أميركي في مواجهة إيران ونفوذها وأذرعها الإقليمية في سورية ولبنان واليمن. وهذا يعني أن غاية ما يمكن أن يفعله بايدن في المدى المنظور هي إدارة النزاع في الشرق الأوسط من دون حسمه لصالح حلفائه.
إذا كانت أميركا تائهة في اللحظة، فإن العرب أمة تائهة في التاريخ
النتيجة المتوقعة لسلبية واشنطن وصمتها السياسي استمرار معاناة الشعوب العربية: معاناة الشعب الفلسطيني من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وهضم حقوقه الوطنية ومنع إقامة دولته، بسبب تغاضي واشنطن عن تعنت إسرائيل السياسي تجاه الفلسطينيين، ومعاناة الشعوب العربية التي فشلت ثوراتها المطالبة بالحرية والعدالة، وعادت إلى حكم أنظمة مستبدة تستمد وجودها من دعم الولايات المتحدة لها، فلا تحفل بالديمقراطية وحقوق الإنسان كما لا تحفل بالتنمية الحقيقية والشاملة، ثم معاناة الشعوب العربية التي ما زالت تعاني ويلات الحروب، من دون أن تتخذ الولايات المتحدة موقفاً أخلاقياً حاسماً تجاهها. غير أن سلبية واشنطن هذه، بالنسبة للرأي العام العربي، ربما لا تختلف في المحصلة عن إيجابيتها. فحين كان الدور الأميركي "إيجابياً"، أي قائماً على التدخل، فإنه افتعل الحروب والاحتلالات ونتائجها الكارثية، كما في العراق وقبلها أفغانستان، واستغرق في دعم إسرائيل، فلا فرق حين تكون أميركا تائهة أو ذات بصيرة، سوى في شكل الدمار والخراب الذي سيلحق بالمصالح العربية؛ أي مصالح الشعوب ومصالح الأجيال العربية المقبلة.
لو كانت لدى العرب رغبة في الخلاص من القدر الأميركي، فإننا في لحظة أميركية مناسبة لجهة تغيير قواعد التحالف وإعادة صياغة النظرة الأميركية للمصالح العربية. لكن المشكلة أن العكس هو الصحيح: رغبة الممسكين بالقرار العربي الحقيقية هي استدعاء أميركا، وإبقاؤها، ومنع خروجها من المنطقة العربية أو تغيير نظرتها تجاهها. والحال أنه إذا كانت أميركا تائهة في اللحظة، فإن العرب أمة تائهة في التاريخ.