أميركا التي تحيّرنا
ما هي أميركا التي تجعلنا، نحن العرب، مستنفَرين، ثلاثة أيام، لمعرفة الذي اختاره مواطنوها رئيساً لهم؟ هل هي التي تضرب ملجأ العامرية في بغداد، بقنبلتين حارقتين، زنة كل منهما ألف رطل، فتقتل أكثر من أربعمائة مدني فيه، أم هي التي يشتهي ملايين منا القدرة على ابتعاث أبنائنا للتعلّم فيها، ونيلهم أعلى الشهادات الجامعية منها؟ ما هي أميركا هذه التي لا يستحسن سوريٌّ في إسطنبول فوز بايدن رئيساً، ويخاف موريتانيٌّ في نواكشوط من ارتفاع ضغط الدم لديه لو باغته على شاشة التلفزيون قدّامه نبأ فوز ترامب برئاسة ثانية؟ هل هي جون بولتون يرفع يدَه معلناً فيتو في مجلس الأمن على مشروع قرار ينتقد إسرائيل، لارتكابها مذبحةً في بيت حانون قضى فيها عشرون فلسطينياً، أم هي ريتشيل كوري تعتصم أمام منزل أسرة فلسطينية في رفح أراد المحتلون هدمه، فقتلتْها جرّافةٌ إسرائيلية؟ ما هي أميركا هذه التي صار ملايين العرب يعرفون عدد أصوات مندوبي المجمّع الانتخابي التي نالها ترامب في ولاية فلوريدا، وهم لا يعرفون أسماء أربعة وزراء في حكومات بلدانهم؟ هل هي التي يصعد فيها باراك أوباما رئيساً أم التي يقتُل فيها شرطيٌّ مواطناً أسود البشرة، اسمه جورج فلويد، خنقاً ببسطاره؟ ما هي أميركا هذه التي يتعوّذ ناسٌ في أم درمان في السودان ومخيم جباليا في فلسطين وفي الصالحية في الكويت من الشيطان الرجيم، تطيّراً من بقاء ترامب في البيت الأبيض، فيما عربٌ آخرون، من طبّالي حاكمين في ثلاث دول عربية (مثلاً) يرون إصاباتهم بالتهاب السحايا أقلَّ أذىً من وقف المذكور عن مزاولة الرئاسة؟ هل هي ميريل ستريب التي تعلن أمام جمهرةٍ من مستمعيها، في حفلٍ مشهود، وأمام نظّارةٍ بلا عدد في العالم، إن ترامب عنصريٌّ ضيق الأفق، وليس مؤهلاً للرئاسة، أم هي غربة الروائية الزنجية، توني موريسون، في بلدها الولايات المتحدة، على ما تقول؟ ما هي أميركا هذه التي يورّطنا بايدن، الذي أعلن صراحةً صهيونيّته، في ترقّب ظفره بالرئاسة؟ هل هي الناشطة إيميلي واشمان التي توالت زياراتها لفلسطين، للتظاهر ضد جدار الفصل العنصري، ثم تتزوج شاباً من بلدة دير الغضون، أم هي صواريخ بيل كلينتون على مصنعٍ للدواء في الخرطوم؟ ما هي أميركا هذه التي تتفرّغ شاشات فضائيات العالم، ومنها العربية بداهةً، لمتابعة درجات حرارة رئيسها لمّا أُصيب بكورونا؟ هل هي التي جعلت فأراً صنعْته وسمّته ميكي ماوس نجماً عالمياً، وتُحبّب فينا ظرافة مقالبه ضد القط الخائب، أم هي التي يأمر جنرالٌ منها احتلّت قواته الفلبين، قبل أكثر من 120 عاماً، جنوده بالقتل والحرق أكثر وأكثر، ليسعد بذلك أكثر وأكثر؟
هناك مشكلةٌ في وعينا العربي العام اسمها أميركا. البلد الكثير الجغرافيا والقليل التاريخ على ما وصفها محمد حسنين هيكل، لمّا "شرّح" طريقها إلى أن تصير "الإمبراطورية" الراهنة، ورأى علاقة العرب بها شبه مأساةٍ إغريقية. أميركا هذه يستنطقك موظفٌ منها، إذا ما طلبتَ تأشيرة دخول إليها، بأسئلةٍ بلا عددٍ عن أسرتك وعائلتك وأجدادك وكل حياتك. وكان مصطفى أمين قد كتب إنه لمّا طلب التأشيرة من السفارة الأميركية في القاهرة، في ثلاثينيات القرن الماضي، سألوه، في استمارة من ثماني صفحات، مثلاً، عن عدد مرّات استحمامه في الأسبوع، وما إذا كان شيوعياً، وما إذا كان ثمّة مختلٌّ عقلياً في عائلته، وهل يحبّ الممثلة غريتو غاربو أم مارلين ديتريش. أخبر قرّاءه، في كتابه الذي صدر في 1943 "أميركا الضاحكة"، عمّا شاهده من مفارقاتٍ في بلد الدهشة والعلم، وقد تخرّج من إحدى جامعاتها في 1938، من قبيل ما صادفه عن التأمين ضد خيانة الزوجات! اختلفت كثيراً مضامين كتاب أمين عن "أمريكا التي رأيت"، كتاب سيد قطب الذي جال في الولايات المتحدة سنتين، (عاد في 1950)، ورآها "ورشةً ضخمةً ليس إلا"، و"مصدر خطرٍ على البشرية لو تزّعمت العالم"، و"أمة تسري شهوة الحرب في عروقها وأوصالها.. محطّمة نفسياً مريضة أخلاقياً مشوّهة شعورياً". رآها "تصلح أن تكون ورشة العالم، فتؤدّي وظيفتها على خير ما تكون، أما أن يكون العالم كله أمريكا فتلك كارثة". وبحسبه، السينما هي الفن الوحيد الذي يتقنه "الأمريكان".
قصارى الكلام، أميركا درسٌ عويص، ليست طاعوناً تماماً، كما جهر ضدّها محمود درويش منفعلاً. ربما هي بلد الفرص منذ قامت، وقد قامت مجتمعاً متنوعاً نشطاً بأخلاطٍ من قومياتٍ وشعوبٍ تشكلت أمةً، البلد الذي أمكن لمرتا حدّاد، بطلة رواية ربيع جابر "أميركا" (المركز الثقافي العربي ودار الآداب، بيروت، 2009) أن تصل إليها، في العام 1923، للبحث عن زوجها الضائع الهارب، ثم تلقاه متزوّجاً، ثم تعكف، بكدّ كثير، على كينونتها، فتملك مزرعةً كبيرة، بعد عنتٍ كثير في الحياة. أميركا هي هذه التي نحبّ أن نراها، بلد ستيف جوبز وجين فوندا، لا بلد دونالد رامسفيلد ودونالد ترامب .. لكننا هنا نخطئ، لأنها بلد ذينك وهذين.