"أقفاص فارغة" ... أو حين تعرى الكتابة
لو سُئل أيُّ كاتبٍ إن كان بالإمكان تقصّي وجود نتفٍ من ذاته في أعماله، وذلك مهما ابتعدت تلك عنه كإنسان ونأت عن أحداث حياته وتفاصيلها، فسوف يُجيبك، اللّهم إن كان صادقاً، بنعم. بهذا أجاب الأديبُ الفرنسي غوستاف فلوبير، حين سئل عمّن تكون بطلة رائعته "مدام بوفاري"، بقوله: إيمّا بوفاري، هي أنا! وذلك برغم كلّ ما كان يفصلُه عنها، ظاهرياً، لأن الشخصيات التي يبتكرها الكاتبُ لا تأتي من العدم. إنها من "بنات أفكاره"، كما يُقال، وهي عبارة، على بداهتها، تشي بالكثير إن فُكّكت معانيها. إذن، تحضر ذاتُ الكاتب برغم غيابها الظاهري عن النسيج الروائي أو الشعريّ، فكيف بها إذاً حين تُعلن حضورَها بشكل مطلق وكلّي، كما هي الحال لدى صياغة سيرة ذاتية. فهنا، لا فعل تماهٍ، أو تقمّص، أو دخول في جلد الآخر، بل على العكس، هناك فعلُ خروجٍ من الجِلد وتظهيرٍ للذات من خلال محو المسافة بين الأنا الراوية والأنا الحقيقية. وبذا يصبح السؤال المطروح هو حجم الجزء الذي سيجري تظهيره، والطريقة التي سيتمّ بها ذلك، لكي يصدّق القارئُ حقيقة ما يقرأ.
مدعاة هذا الكلام هو كتاب "أقفاص فارغة" للشاعرة والكاتبة المصرية فاطمة قنديل (دار الكتب خان، القاهرة، 2021، حازت جائزة نجيب محفوظ 2022)، حيث تقول: "فكرة وجود قارئ لهذه الأوراق ترعبني، أكثر من الرعب، كأنه العجز الكامل عن أن أواصل. القارئ الذي طالما سعيتُ إليه وكان يجلس على حافّة مكتبي وأنا أكتب" (...) "أزيحه الآن بعنف، لا أريد أن يقرأ هذه الأوراق، لا أريد أن يتلصّص على حياتي، لكنني أكذب أيضاً، لا يمكن أن يكتب أحد دون أحد، دون أن يشاركه شخصٌ ما هذا الضجيج الساري في روحه".
وقنديل تختصر بامتياز مُعضلة الكاتب، حين لا يكون التماهي أداة يستخدمها لقول ما يعتمل في داخله، فيقرّر كتابة سيرته الذاتية من دون اللجوء إلى الاستعانة بعكّازات، أو وسائل تورية، أو أقنعة تنصّل وتمويه. فهي هنا امرأة تحكي فشل حياتها الزوجية، والعائلية، بقدر ما تُعلن، من خلال خيارها الأدبي هذا، الانتماءَ بشكل مطلق وحصري إلى هُويتّها الحقيقية المنتقاة بحرية، ألا وهي هُويتها ككاتبة، وإسقاط كل تعريفاتها الأخرى، فلا هي زوجة فلان أو فلان اللذين تطلّقت منهما، ولا هي ابنة ذلك الأب الذي أفلس ليتحوّل رجلاً مخموراً تخجل منه وتتمنّى موته، ولا هي أخت الشقيقين اللذين خيّباها ووالدتَها في أحلك لحظات حياتهما، ولا هي ابنة أخ ذلك العمّ أو ابنة أخت تلك الخالة اللذين أرادا حشرها في قالب أسري واجتماعي ترفضه. هي فقط "شاعرة"، كما تذكّرهم في أكثر من موضع. وهي ربما أيضاً ابنة تلك الأمّ المبعثرة، الهشّة، التي ستقع ضحية مرضٍ عضال، والتي، برغم كل شيء، تمنحها ما تفتقده لدى الآخرين، من حبّ وحنان وثقة تجعلها تتساءل: ألسنا، أنا وأنتِ، زوجين سعيدين معاً؟
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى اعتماد قنديل "لغة عارية"، كما تسمّيها، ربما لأنّ الكتابة هنا كشطٌ لكلّ ما يجمّل ويموّه ويواري، ونكءٌ للجرح "كي يندمل في الهواء". أو ربما لأنّ تعرية الأشياء الموجعة والمخجلة، إخراجها من مخابئها وتعريضها للنور، إنما تبدأ بالاعتراف بها كما هي، فجّة وخالية من كل تنميق. تقول: "كل ما كتبته على هذه الأوراق، كان مؤلماً، لكنني كنتُ أتعافى منه في اليوم التالي (...) أسوأ ما يمكن أن يحدُث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالاً مأثورة مما أكتب الآن، أن تصير حياتي قولاً مأثوراً، وهو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درساً، أو عبرة، هو الجحيم ذاته، أحاول أن أتجنّب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تماماً، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات...".