أفريقيا في العيد الستين لاتحادها
احتفلت بلدان أفريقية عديدة (وغيرها)، في 25 مايو/ أيار الحالي، بالذكرى الستين لتأسيس الاتحاد الأفريقي، وهي ذكرى يستحضر فيها الأفارقة جهود الآباء المؤسّسين الذين حرصوا على أثر موجة الاستقلال الأولى لعدة بلدان أفريقية أن ينتظموا في هيكل سياسي قارّي، سمّوه آنذاك منظمة الوحدة الأفريقية. وحرصوا على أن يكون لهم صوت موحّد يضع حدّا لتشتتهم. كانت أحلامهم وآمالهم عظيمة، خصوصا في ظل الصعوبات التي مرّت بها شعوبهم وهي تخرج من ليل الاستعمار الطويل. لكن المنجز لم يكن بحجم أحلامهم تلك.
للاحتفاء بالذكرى، انتظمت في بلدان عديدة عدة فعاليات سياسية وثقافية، كانت في جلها تحت لافتة "يوم أفريقيا". ومع كل مشاعر الاحتفاء هذه، لم تستطع هذه الذكرى أن تحجُب صورة قاتمة تُرسم عن هذه القارّة السمراء، إذ ستبدو لنا أكثر القارّات تعثّرا وارتباكا، وهي التي سجّلت خلال السنوات الأخيرة العدد الأرفع من الانقلابات العسكرية، بعد أن كانت أميركا اللاتينية تتربع في الصدارة في سبعينيات القرن الماضي. كما ظلت أفريقيا أيضا أكثر القارّات التي تشقّ مجتمعاتها الحروب الأهلية التي تؤجّجها الهويات الإثنية والقبلية والعجز عن إيجاد اتفاقات ومواثيق تستبعد العنف وتركن الى الحوار. نتذكّر المجازر البشعة في رواندا، وكذلك كل تلك المآسي والجرائم الفظيعة في دارفور وجنوب السودان، وأخرى مثيلات في بلدان أخرى. ولم تتوقف هذه النكبات عند القرن الماضي، بل زحفت وتمدّدت حتى على القرن الواحد العشرين الذي دخلته أفريقيا مثقلة بذاكرة مكلومة وحاضر موغل في معارك دموية. خلال السنوات الخمس الأخيرة على سبيل المثال، عانت ليبيا وإثيوبيا ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، والسودان حاليا، صراعات مدمّرة تعيد القارّة إلى أزمنة مظلمة، حيث يركن البشر إلى العنف لحسم الخلافات.
تشهد القارّة حاليا، حسب خبراء ودراسات جادّة عديدة، أكثر من نسق من التغيرات المناخية الحادّة والمتطرّفة التي ستدفع في السنوات القليلة المقبلة مئات آلاف المهاجرين نحو الشواطئ الأوروبية. وستضطرّ هذه الموجات البشرية الهائلة إلى شقّ القارّة طولا وعرضا غير عابئة، تحت وطأة الجفاف والمجاعة، ولن تحترم الحدود، وستدفع باندلاع قلاقل عديدة وحالاتٍ من عدم الاستقرار السياسي.
أفريقيا هي القارّة التي لم تشهد إلا حالات محدودة من الانتقالات الديمقراطية مقارنة بمثيلاتها من القارّات الأخرى
بعد العقود الستة منذ تأسيس الاتحاد الأفريقي الذي عرفت فيها القارّة اختفاء آخر نظام عنصري فيها، حيث انتصر صمود السود في جنوب أفريقيا على أطول نظام أبرتهايد، وتواصلت موجات الاستقلال في أكثر من بلد، ولكن جل البلدان ظلت عاجزةً عن إحداث نقلة اقتصادية ذات قيمة، كما ظلت متحفا "للاستبداد السياسي". إنها القارّة التي لم تشهد إلا حالات محدودة من الانتقالات الديمقراطية مقارنة بمثيلاتها من القارات الأخرى، على غرار القارّة الأوروبية التي شهدت الموجة الأولى خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته: البرتغال وأسبانيا، ثم شهدت الموجة الثانية في شرقها بعد أن تفكّك الاتحاد السوفياتي: بولونيا، رومانيا، ألبانيا... إلخ. في هذه العشريات الأخيرة من القرن الماضي، عرفت أميركا اللاتينية أيضا، وحتى آسيا تقريبا، التحوّلات نفسها التي غادرت فيه الشعوب، وبأنساق مختلفة وبأشكال متعدّدة، أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، وتحوّلت تدريجيا إلى بلدان ديمقراطية. لم يكن الأمر سهلا، غير أن خطوات جبّارة في التحرّر من الاستبداد تحققت، غير أن أفريقيا ظلت تقريبا حالة استثنائية مستعصية. ما زالت أكثر من عشر دول تحكمها أنظمة عسكرية بعد انقلابات دموية. وسجلت القارّة خلال العقود الأربعة الأخيرة أكثر من مائة انقلاب. ومع ذلك، لم يفلح الاتحاد الأفريقي (أو منظمة الوحدة الأفريقية في تسميته السابقة) في إجبارها على تسليم السلطة إلى المدنيين، وهذا هو الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، وهو الحالة الأحدث، شاهد على هذا الإخفاق.
لم تُنتج مشاعر "الكراهية" تجاه فرنسا في أكثر من بلد أفريقي تحرّرا وطنيا حقيقيا. فما إن غادرت فرنسا، أو همت بالخروج، حتى استبدلت الأنظمة تلك الحماية إما بتنظيمات إرهابية أو تنظيمات عسكرية أقرب إلى المليشيات المرتزقة. ويبرهن حضور "فاغنر" الروسية في أكثر من بلد أفريقي، ومشاركاتها الضارية في حروب أهلية، على هذه التحوّلات الخطرة التي ستديم الأزمات العميقة في القارّة.
يقال إن القرن المقبل سيكون قرن أفريقيا، ولكن هذا يقتضي أن يستعد الأفارقة لقرنهم، قبل أن تُصنع مصائرهم مرة ثانية على أيدي غيرهم. "ماما أفريكا" ليست مجرّد أغنية لمريام ماكيبا المغنية الرمز، بل هي نداء المستقبل الذي ما زال أملا قائما.