أصل الليل للسهر
فشلتُ تماماً بمكافحة عادة السهر التي اعتدتُ عليها في السنوات الأخيرة. أسهر إلى ما بعد صلاة الفجر، وأكتفي بثلاث ساعات من النوم في أيام العمل، وأربعٍ أيام العطل من أربع وعشرين ساعة.
ينصحني كل من يعرف هذه المعلومة من حولي بمحاولة تغيير تلك العادة، وأن الجسد بحاجة إلى ساعات أكثر من النوم، وخصوصاً بعد سن الخمسين. كنت أوافقهم الرأي، وأبدأ بمحاولة جديدة سرعان ما تفشل. إلى أن اكتشفت أنني أفشل في الأمر، لأنني في أعماقي لا أريده. أرى النوم مجرّد مضيعة للوقت، وأنه مجرّد عادة اعتادها الإنسان الأول عندما كانت تغيب الشمس ويعمّ الظلام، فيلجأ إلى كهفه ليستريح قليلاً، وشيئاً فشيئاً اعتاد على النوم ساعات طويلة. صدّقت اكتشافي هذا واقتنعت به، لتبرير فشلي في مقاومة السهر ومكافحته. تكفيني ساعاتٌ من الاسترخاء التي لا تصل بي إلى مرحلة النوم لأجد نفسي وقد عدتُ إلى يقظتي الكاملة، مستعدّة لأي مهمةٍ من مهماتي اليومية.
هل هذا طبيعي؟ لا أدري، فقد كثرت الآراء والأقوال، خصوصاً أنني صرت أبحث من بينها عما يدحض الآراء الطبية الشائعة، ويؤيّدني فيما أذهب إليه، ولكنه يناسبني جداً، ثم إنه يطيل يومي ويمدد وقتي بما يكفي بعضاً من أحلامي في القراءة وفي الكتابة وفي ممارسة تفاصيل الحياة اليومية الأخرى. ألم يقل عمر الخيام في رباعياته: "فما أطال النومُ عمراً / ولا قصّر في الأعمار طول السهر؟
ألم يقل شاعر بدوي من الجزيرة العربية: النوم سبّاي المراجل والأرزاق/ يا قل نوم مدورين المكاسيب
إن كان ما جاك الرجل نومه إشفاق/ تحرم عليه مشوهقات المراقيب"؟
ألم يقل شاعر ثالث من الجزيرة العربية أيضاً: النوم راس اللوم بان الردى فيه/ وعينٍ تبي الطولات نومه شلافيح"؟
ثم إن أغاني السهر أكثر من أن نحيط بها كتابة هنا، وهو ما يثبت أن انحيازي إلى خيار السهر ضد خيار النوم يعود إلى مرجعيّتي الشعرية الموروثة، والتي جعلتني أنضمّ مبكّراً للحزب الفيروزي الذي يرفع شعار: الليل مش للنوم/ أصل الليل للسهر"!
لكن هل أنصح بالسهر؟ لا بالتأكيد، صحيحٌ أنني أعشقه لكنني لا أنصح أحداً به، وصحيحٌ أن الشعور بأن الليل يمتدّ أمامك بلا حدود، وأن كل الأمور التي تراكمت على ظهرك خلال النهار قد طُويت للتو، مريح وجميل. ولكن هذا قد يبدو خاصاً جداً، ولا يناسب الجميع، كما تقول معظم الدراسات والأبحاث الطبية التي تحذّر من آثار السهر الضارّة على الجسم، على اعتبار أن الإنسان عندما ينام، تتصلح الأنسجة وتتجدّد الخلايا ويعاد توازن الهرمونات. ووفقاً للأطباء، من المهم أن يفهم الناس، غيري، أن السهر ليس بديلاً صحياً للنوم، وأنه يمكن أن يكون مضرّاً للصحة. وبالتالي، على الأفراد تقليل عادة السهر والحرص على الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم الجيد. وإذا كان لا بد من السهر، ينبغي تفادي السهر المستمرّ وتخصيص فترات الراحة والنوم الكافية للحفاظ على صحّة الجسم والعقل.
لكن لا بد لنا أن نفرّق هنا ما بين حالتي السهر والأرق باعتبارهما حالتين تؤثران على النوم، وقد تتشابهان في بعض النواحي، ولكنهما تختلفان بعضهما عن بعض. أما الأرق، فهو حالة عدم القدرة على النوم أو البقاء مستيقظاً في الليل، رغم الرغبة في النوم والقلق بشأن ذلك. أما السهر فهو خيارٌ شخصيٌّ للشخص الذي يعرف احتياجاته النفسية والصحية، ويعمل على الموازنة بينهما وفقاً لتجاربه الخاصة في يومياته وليلياته الحياتية في مرحلةٍ من عمره أو في عمره كله!