أسئلة تونس مُرَّةٌ .. وإجاباتها أيضاً
لم ننجح وسيفشلون... تكاد هذه الكلمات الثلاث تصبح تلخيصًا أمينًا لواقع المواجهات الممتدة بين ثورات الربيع العربي والثورات المضادة. والسائرون تحت راية الثورة في كل الساحات العربية، بلا استثناء، لا يمكنهم التنكر لحقيقة أنهم لم ينحجوا. والفرق الرئيس بين "مشجّع الكرة" و"لاعب الكرة" أن الأول يستطيع أن يصف لك، وهو متكئ على أريكة، كيف إحراز هدفٍ في شياك الخصم، أما الثاني فيستطيع أن يفعل ذلك بنفسه "تحت ضغظ الخصم". وأحسب أن من الإنصاف الإقرار بأن ثورات الربيع العربي غلب عليها "حماس المشجّعين"، وغابت عنها، إلى حد كبير، "كفاءة المحترفين".
وكل العوامل المعيقة للثورات داخليًا وخارجيًا كانت جزءًا من المشهد الثوري في ثورات العصر الحديث كلها تقريبًا، وإن اختلفت التفاصيل. والاكتفاء بالإلحاح عليها، تفسيرا وحيدا، وعلاجا نفسيا في الوقت نفسه، أوجد حالة من الحساسية المبالغ فيها إزاء كل نقد وكل تقويم وكل تقييم. ومع الإخفاق في الوصول إلى الأهداف، انطلاقًا من المعطيات المتاحة (أيًا كانت نواقصها) أصبح مشهد الربيع العربي أقرب إلى مشهد فريق كرة قدم لا يستطيع اللعب "تحت ضغط الخصم"!.
التقييم الصريح لقدرات أغلبية النخب السياسية العربية، بعد اختباراتٍ متتالية، يبعث على الأسى، فيما يتصل بالأفكار والاسترتيجيات والتكتيكات والخطابات
واعتماد حسابات الربح والخسارة على ثنائية إسلاميين/ علمانيين هي جرعة أخرى من قارورة المرارة التونسية التي سبقتها قوارير أخرى، في مصر واليمن وسورية وليبيا والسودان، فالتقييم الصريح لقدرات أغلبية النخب السياسية العربية، بعد اختباراتٍ متتالية، يبعث على الأسى، فيما يتصل بالأفكار والاسترتيجيات والتكتيكات والخطابات. والمثقفون القادرون على المساهمة في إنقاذ السفينة من الغرق، بالإضافة إلى قلة عددهم، كانوا، في معظم الحالات، مبعدين عن مواقع التأثير قبل "الربيع العربي" وبعده. وللأسف الشديد، لم تفلح أيٌّ من التجارب سالفة الذكر في وضع هذه النخبة في موضهعا الصحيح. وفي الحالة التونسية، تشابهت على "تحالف الكرامة" (الحاكم؟) الفروق الدقيقة بين التقاليد والقيم والمصالح العليا. وفي الوقت القاتل، عجزوا عن التمييز بين الاستحقاقات المتعدّدة للمرحلة التي تمر بها البلاد، فـ "الاستحقاق الدستوري" لا يمكنه سدّ فجوة القصور الكبير في "الاستحقاق السياسي"، وكلاهما لم يشكّلا رصيدًا لـ "الاستحقاق الوطني العام"، وكان الإنهاك المخطّط للحكومة استنزافًا مـُخـطَّطًا للشرعيتين: الثورة والدستورية.
والإجابة التي اعتمدها الرئيس التونسي، قيس سعيد، كانت أكثر بؤسًا ومرارةً من السؤال، فالشرعية الدستورية، في القيم والإجراءات معًا، تبقى ثروة وطنية للتونسيين جميعًا، وعليه، فلا يحق له تبديدها، ومؤسسات الدولة التي تمثل المشترك العام المادي والمعنوي التونسي (وبخاصة في المشهد التونسي الراهن: البرلمان، الجيش، والنيابة العامة) كان على الرئيس توقيرها، وتعزيز ما تمثله من رمزية تعلو على كل الاستقطابات السياسية والأيديولوجية، وما حدث أنه قرّر أن يجعلها أول ما يأكله الحريق!!
التغيير في كل الثورات في التاريخ لا يتم بشكل "معملي"، فهناك دائمًا متضرّرون من الثورة، أو متآمرون عليها في الداخل أو الخارج، أو في الداخل والخارج معًا
والإصرار، من الجانبين، على الاستخدام الخاطئ للوسائل يضع تونس كلها أمام اختبارٍ عسير، فالبرلمان المنتخب، أيًا كانت توجهات أغلبيته، يظل الرمز الأكثر استحقاقًا للاحترام لإرادة الشعب التونسي، والحكومة التي استمدّت مشروعيتها منه لا يملك أحد إطاحتها بخطاب شعبوي فيه من الجزافية أكثر بكثير مما فيه من الموضوعية. يضاف إلى ما سبق أن الاستدعاء المكشوف لخطر العنف، اختلاقًا أو تضخيمًا، يحمل في طياته مخاطر كثيرة. أحد أكبر هذه المخاطر أن يكون هناك من يلتقط الخيط داخل الأجهزة الأمنية، فيبدأ في عمل منظم يسفر، في النهاية، عن إعادة بعث الدولة البوليسية في تونس وتضخيمها، ولا شيء يخدم مثل هذه المساعي أكثر من الاستخدام المجاني لخطر العنف المسلح.
الاعتراف بأن نخب الربيع العربي تتحمّل جانبًا من المسؤولية عن الإجهاض المتتابع لثوراته، إجابة مرّة عن سؤال لا يقل مرارة، والاعتراف ضرورة للفهم والعلاج. والتغيير في كل الثورات في التاريخ لا يتم بشكل "معملي"، فهناك دائمًا متضرّرون من الثورة، أو متآمرون عليها في الداخل أو الخارج، أو في الداخل والخارج معًا. ولا أحسب أن ثورة يمكن أن تنتصر ومن يمسكون دفتها يأملون أن يفوزوا بمباراةٍ يشاهدونها من مقاعد المتفرّجين.