أخوية الألم وشياطينه
على ما يبدو، ترسم أخوية ألم السوريين ملامح صور شياطينه! فأخيراً اعتُرِف عالمياً بأن سورية أكثر بلدٍ يعاني من قضايا الاختفاء القسري والاعتقال. وحسب تقرير أصدرته أخيراً الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك 154 ألفاً و398 مفقوداً، يتحمّل النظام السوري مسؤولية اختفاء واعتقال 135ألفاً و253 معتقلاً منهم، بينما تتقاسم مسؤولية اختفاء الآخرين "داعش" وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وجهات أخرى.
لهؤلاء المفقودين عائلاتٌ اجتمعت فيما بينها، ونظّمت أنفسها لتشكيل مجموعات بحث عن أحبّائها؛ منها "عائلاتٌ من أجل الحرّية"، "رابطة عائلات قيصر"، ومسار "تحالف أُسر الأشخاص المختطفين لدى داعش". أغلب نشطاء هذه التجمعات من النساء، هكذا ومن دون شعارات سياسية وعقائدية يعرّفن عن أنفسهن بأنهن يبحثن عن أحبّائهن فقط! ويقُلْن إن هناك أطفالاً يموتون تحت التعذيب ويقضون سنواتٍ في السجون مع أمّهاتهم، ويُضفْنَ تفصيلاً بأن مَنْ يعيش مِنَ الأطفال لا يعرف ماذا تعني الألوان، ماذا تعني زرقة السماء، وهذا ليس تخيّلاً روائياً، إنه من بَيان عائلات من أجل الحرّية، مؤكّداتٍ أنهن لا يستطعن إعطاء رقمٍ محدّد لعدد المعتقلين، ويقفْنَ عند هذا التفصيل بوجومٍ بالغٍ، لأنهن رغم التقديرات يقُلْنَ إن الرقم أكبر من هذا بكثير!
وقفتْ أولئك النساء في ساحات المدن الغريبة يحملن صور أحبّائهن، سافرْن في مغارب الأرض ومشارقها، كثيراتٌ منهن يخبّئن وجوههن بصور مفقوديهن، وتتحوّل أجسادهن إلى صور أحبّائهن، تختفي ملامحهن، ويصرْنَ كحواملِ كاميراتٍ حيناً، وظلالِ وجوه المختفين أحياناً أخرى، يبحثن عن المفقود من حياتهن، وعن أجزاءٍ حوّلت منافيهن إلى عذابٍ يومي، أين ذهب أولئك الآخرون؟ أبناؤهن، أزواجهن، إخوانهن، أخواتهن. إنهن يعرضن صورهم كنقصانٍ بليغ لمعنى حياتهن أنفسهن، يتآخين في الألم الظاهر، ويرسمن ملامح شياطينه التي تتشكّل في قصصهن، كل فَقْدٍ لهن هو جزءٌ من بناء خريطة العنف، الفقد المشترك في زمن التظاهر السلمي والمطالبة بالإصلاحات. إنهن نساءٌ من لحمٍ ودم، ولا يمكن أحداً التشكيك بما يروين عمّا حصل.
تستخدم الناشطة وفا مصطفى مجتمع الفرجة من أجل قضيتها، تأكل الكاميرات، لا تخاف التلصّص، ولا تخفي الغضب
واحدةٌ من تجمّع "عائلات من أجل الحرّية"، هي آمنة خولاني، وهي معتقلةٌ سابقة في سجون النظام، قُتل أخوتها الشباب الثلاثة في السجون؛ فقدت اثنين منهم قضيا تحت التعذيب، وجرى التعرّف إلى صورة أخيها الثالث عندما تسرّبت صور قيصر، وهي من مدينة داريا، ومن حركة الأكرميين الذين ترّبوا على يد عبد الأكرم السقا الشيخ المتنّور، ورجل الدين اللاعنفي الذي لا يزال مختفياً في سجون النظام. تسافر آمنة مع العائلات يَجوبون العالم للضغط على النظام والمجتمع الدولي للإفراج عمّن بقي من المعتقلين، وتُري صور أخوتها الذين كانوا من أوائلِ مَنْ حملَ الزهور والماء للجيش، وهم يقولون: الجيش والشعب واحد!
قبل الثورة، كان الشباب الأكرميون يؤسّسون لحراكٍ ونشاطٍ مدني ثقافي ومجتمعي. وفي أثناء حرب العراق، نشطوا في العمل ضد دعواتٍ يقوم بها مشايخ المخابرات السورية في الدعوة إلى الجهاد. كان الأكرميون ينبذون دعواتهم، ويرفضون استخدام الشباب السوري وتحويله إلى جهاديين، لم يُعجَبْ النظام بهذا الشكل التنويري من الإسلام، واعتُقل الأستاذ السقا وبعض تلاميذه حينها.
حكاية آمنة وأخوتها وحكاية الأكرميين تُظهر رعب النظام من نشوء حراكٍ ينشط به جيل متنوّر من الشباب السوري المُسلم المعتدل، وهذا أمرٌ يجب الوقوف عنده، خصوصاً أن تجربة الأكرميين وتاريخ مدينة داريا يكفي لفهم الاستراتيجية التي اتّبعها الأسد الأب للعب على موقعه إقليمياً. باستخدام ورقة المجموعات الجهادية كقوةٍ، من خلال تصدير الجهاديين وحشدهم، كما حصل في لبنان والعراق، وهذا ما استمرّ عليه ابنه، وكان أول ما فعله حين بدأ الحراك الشعبي اعتقال الشباب السلميين وقتلهم؛ ومنهم كان غيّاث مطر وأُخوة آمنة.
أمّا الشابّة المحاربة وفا مصطفى، فتمارس فعلاً ضد الامّحاء، وهي قادمةٌ من حيّ المهاجرين، الذي تقول إنه قريب من الحيّ الذي يسكن فيه بشار الأسد، وإن مَنْ خطفوا أباها لا بدّ أن يكونوا جماعة الأمن، ولا يمكن أي جهة أخرى أن تفعل ذلك.
على خلاف الأخريات، تستخدم وفا مجتمع الفرجة من أجل قضيتها، تأكل الكاميرات، لا تخاف التلصّص، ولا تخفي الغضب، لا تقف في الساحات فقط وتحمل صور أبيها، لا تتوقّف عن تحويل ساحات التواصل الاجتماعي والشاشات إلى منبر لحراكها النَّشِط. وفا أيضاً اعتُقلت، وخرجت من السجن وهربت مع عائلتها، وبدأت بالبحث عن أبيها. تعرض وفا نفسها كما لو أنها الطبيب المفقود، جسدها جسده. تشتغل ضد محو الذاكرة، لا تخجل من هشاشتها واضطرابها، إنها تنفعل وتصرُخ، تجسيدٌ صارخٌ لمعنى المرارة والفقد، وهي عندما تجول بصورها أمام الكاميرات لا تريد أن يرى العالم وفا علي مصطفى، هذه الشابّة تريد أن تقول: أنا الطبيب المعارض السلمي علي مصطفى من الأقليّات الدينية اختطفني نظام الأسد سنة 2012، لأني كنت أداوي وأنقذ أبناء بلدي!
كان المعارض عبد العزيز الخيّر سلمياً، ولم يغادر سورية، وكان سقف مطالبه الإصلاحات، ومع ذلك لم يسلم من الخطف والإخفاء
في خريطةٍ أخرى لشياطين الألم؛ حكاية سيّدة من رابطة عائلات قيصر، إنها ياسمين المشعان من مدينة دير الزور، أو السيّدة المفجوعة من منطقة الجزيرة السورية (خزّان القمح السوري سابقاً)! وهي المنطقة المهملة والمتروكة في حكمي الأب والابن، التي عانى سكّانها من شتّى أشكال التمييز والعنصرية في المجتمع، إضافةً إلى الجفاف الذي عانت منه منطقة الجزيرة، والذي حوّل الكثير من قاطني أريافها في دير الزور والرقة إلى نازحي خيامٍ حول مدينة دمشق، يتناهشهم المصيرالغامض والتشرّد، حتى قبل بدء الحراك الشعبي سنة 2011.
قصّة ياسمين فريدةٌ من نوعها؛ لفظاعتها من جهة، ولتأكيدها خريطة العنف التي اتّبعها النظام سنة 2012، تحديداً بما يخصّ النشطاء السلميين من جهة أخرى. تعيش ياسمين في ألمانيا، وهي لاجئة وأمّ لخمسة أولاد، تنشط الأخت والأمّ على عدّة مستويات، تتوزّع صورها في كل مكان وهي تحمل صور أربعة من أخوتها؛ اثنان منهم تمّ قنصهما وقتلهما في المظاهرات السلمية؛ أحدهما كان يسعف الجرحى، وأخوها الذي اختفى في السجون منذ 2012 ظهرت صورته من ضمن صور قيصر لاحقاً. وحين دخل مسلحو "داعش" تسلّموا المهمة عن النظام بقتل النشطاء السلميين وشباب الجيش الحرّ، وكان أخوها الرابع أحد النشطاء الذين ذبحهم "داعش" سنة 2014.
ياسمين المشعان ابنة دير الزور من الموحسن، كانت بالأساس بنتاً وحيدةً لعائلتها، وبقيت مع أخ وحيد من أشقائها الخمسة. عندما خرج أخوة ياسمين للتظاهر سلمياً كانت مطالبهم إصلاحيةً فقط، لقد مدّ هؤلاء الشباب أيديهم بالأمل والرجاء وبمطالب متواضعة من العدالة والإنسانية، فاختفوا عن وجه الحياة! اختفى الأخوة الخمسة، وخرجت العائلة مع أطفالها اليتامى من دير الزور سنة 2015، ولم يعودوا إليها مطلقاً.
خرجت بثينة شعبان في بداية الحراك، لتقول إن ما يحصل في سورية هو عمل مجموعاتٍ إرهابيةٍ متشدّدة
أمّا حكاية فدوى محمود، فهي تلخّص الكثير؛ هذه السيّدة تنتمي إلى طائفة الرئيس نفسها، وهي معتقلةٌ سابقةٌ في سجون الأسد الأب لانتمائها إلى رابطة العمل الشيوعي، وزوجها هو المناضل عبد العزيز الخيّر الذي قضى عمره في سجون الأسد الأب معارضاً له، وكان من أكبردعاة السلمية. اختُطف عبد العزيز من مطار دمشق الدولي سنة 2012، كما صرّحت فدوى في أحد لقاءاتها التلفزيونية، تقول: إن النظام وأجهزة مخابراته هم مسؤولون عن اختفائه مع ابنها! الصورة هنا واضحةٌ؛ كان عبد العزيز الخيّر سلمياً، ولم يغادر سورية، وكان سقف مطالبه الإصلاحات، وذلك بالعمل الهادئ على مستوى تغيير بنية النظام، وهو ابن عائلة معروفة في منطقة الساحل، وتحت حماية دولٍ حليفة للنظام. ومع هذا، لم يسلمْ الرجل الوقور من الخطف والإخفاء!
لقد خرجت بثينة شعبان في بداية الحراك، لتقول إن ما يحصل في سورية عمل مجموعاتٍ إرهابيةٍ متشدّدة. كان هذا في الأسابيع الأولى، حين كان نظام بثينة شعبان يقتل ويخطف عائلات أولئك النساء، وكان عمل الشيطان ذاك، وما حصل لاحقاً، مسافةً زمنيةً تكفي لتحويل سورية إلى مسلخ بشري، اختلطت فيها حقائقُ كثيرةٌ.
بقيت حقيقيةٌ بسيطة لمَنْ يريد أن ينظر في آلام أولئك النساء؛ هي عكس ما يصرّحن به في بياناتهن بأنهن يبتعدن عن السياسة، فكل ما يفعلْنهُ هو جزءٌ من السياسة، وهذا أمر بديهي لمَنْ يستطيع التفريق بين أخوية الألم الذي جمعهن وشياطينه الذين فازوا بجولة الباطل إلى حين!