أحمد الشهاوي ... العاشق الذي عرف

08 يونيو 2023
+ الخط -

أحمد الشهاوي، ابن جيلي، وسنّيد جيلي، وسنّيد آخرين. كان مكتبه في صحيفة الأهرام، في مجلة "نصف الدنيا"، واحة لنا نحن الفقراء الذين نمتلك ناصية الخجل والترفّع معاً، وأحياناً التهوّر بلا مبرّر موضوعي. وكم تحمّل أحمد بحقّ من نزق كثير، مرّة لأنه ابن مؤسّسة الأهرام، ومرّات لأن نجمه وحضوره الإعلامي والأدبي وطباعة كتبه أيضاً، وفق ما يريد ويخطّط، سبق أبناء جيله بخطوات، هل النجاح السابق لأوانه يجني على الكاتب أحياناً؟، تلك قضية تحتاج لنقاشٍ نقدي أكبر من قدراتي وطاقاتي المحدودة جداً.

كان مكتب أحمد الشهاوي المكان الذي نتخاطف منه بعض الإصدارات العربية التي ترسل له هو خصيصاً، ويقدّمها لنا أحمد عن طيب خاطر ورغبة حارّة منه في أن يكون حلقة وصل ما بين الداخل والخارج، هو ابن المدد والوصل والحال، ولكن دائماً الأيام لا تمشي وفقاً لهوانا أو كما نحبّ ونشتهي، ففي طيّاتها العثرات أكثر مما فيها من حلاوة، فكل يوم هو في شأن، وصعوبات الأدب المحمول دائماً في مصر على هبات أكتاف السياسة وتقلّباتها، تجعل الكاتب المسكين يحمل دائماً على ظهره "بطّيختين"، فما بالك بمن حمل على ظهره أكثر من بطّيخة في أيام تعب فيها الشرق من كونه شرقاً والغرب من كونه غرباً، ثم كانت الخاتمة بالثورات العربية وتجاهل الأدب تماماً أو إدخاله حيّز العولبة، والعولمة، والجوائز ولجان التحكيم، والمنافع، ثم كانت الخاتمة بكورونا، واختتمت أخيراً بالحرب الروسية الأوكرانية التي يخطّط لها ساستها بأن تستمر والعياذ بالله عقوداً؟ الصورة بالقطع كئيبة، وخصوصاً على الكتابة الأدبية وجمهور الأدب، أما النقد فتلك حكاية أخرى أيضاً.

أحمد الشهاوي الشاعر والإنسان تراه، كما يحلو له دائماً، في متْنه وهامشه كحياة وكشعر، كصاحب وعاشق وصاحب حال. وأخيراً، مال إلى كتابة الرواية، ودائماً أصحاب الأحوال في قلوبهم ميلة متأخّرة للسرد وبشعره أيضاً يميل إلى السرد، هل لأن أحمد حكم على نفسه، كيتيم، أن يكون في رحاب الأحوال، والأحوال دائماً لطيفةٌ على اليتماء، ومن عيون أحمد تقرأ يُتمه بسهولة العارفين.

تكثر خسارات العاشق، وتكبُر السياسة القذرة في المساحات كلها، سياسة بلا سياسة ولا عقل، وتجور على مساحات الأدب والأحوال، ويتحوّل أصحاب الحال أنفسهم إلى خدم للسلطة مهما كثرت اليافطات وازدادت غموضاً. أبحث أحياناً عن أحمد في قصيدةٍ هنا أو هناك، حتى دخل إلى كتابة النثر، هل هي الحيرة، هل هي الأرض تتقلّب تحت أقدام الجميع، بعدما صار الأدب بلا حيلة، وكثرت الأحزاب خارج أسوار الأحزاب بحيلٍ كان آخرها في نقابة المهندسين، شيءٌ أقرب إلى عراك فتوات أسواق الخضار في الأربعينيات؟

لماذا دائماً يصير حزب الكتابة الأضعف في الوطن وتصير السياسة خارج السياسة والوطن نفسه خارج الوطن؟ المؤسّسات تحب "العيال الباحثة عن المجد"، وأحمد أخذ نصيبه من الشهرة مبكّراً. ولذا تعفّف من بعيد عن المناصب، والسلطة لا تحبّ المتعففين وتركنهم على رفوفها. وأحمد عاشق يعرف كيف يهرب بما ادّخره في القلب من سنوات، وعلّ الطيبة في عينيه أنقذته من مصير العيال. أتذكّر من سنوات ليلة بعيدة لم أرَ أحمد من ساعتها قبل الثورة بسنوات. كنّا في احتفالية للكاتب، إدوار الخرّاط في بيت شاعر العامية ماجد يوسف، علّها "سبعينية إدوار" وكانت ليلة شتوية. وأحمد لم يكن له في الشراب، وطاب السمر، أو علّها ظروف مرضه على أيامها، وطاب الكلام وتغندر إدوار في السعادة والشراب والكلام والمديح، حتى انتهت الليلة جميلة، وفي آخرها أقسم أحمد أن يوصلني إلى مدينة حلوان، بسيارته الجديدة، التي كان مسروراً بها. وإذا بالأحوال ونحن بالقرب من حلوان تأتي بما لا تشتهي السفن، ويخرُج من تحت الأرض ذلك الضابط صغير السن، ويطالب أحمد الشهاوي بأن يركن السيارة ويأتي إليه "بالأوراق الرسمية". وإذا بأحمد يقول: "أنا صحافي بالأهرام وده عيب". كانت الأيام أول سنوات خريف حسني مبارك، وإذا بالضابط يقول بصلف: "أنا لا أعرف أهرام ولا أخبار ولا جمهورية". كان حبيب العادلي قد تحوّل برجاله إلى الحاكم الفعلي للبلاد، والبلاد تتهيأ بالفعل للتوريث، وإذا بي أمشي وحيداً في الظلام تاركاً أحمد وسيارته الجديدة والضابط، فسلام لك يا أحمد من الطيّبين فلم تعاتبني قَطّ على ذلك ولم أرك ثانية. .. هي الأحوال هكذا، وتلك بلادنا.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري