أحمد الحفناوي واللحظة التاريخية

18 ديسمبر 2022
+ الخط -

رحل، قبل أيام، التونسي أحمد الحفناوي صاحب المقولة الشهيرة  "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية". وبالفعل، كانت لحظة تاريخية توّجت انتفاضة شعبية عارمة انطلقت ذات 17 ديسمبر/ كانون الأول من سيدي بوزيد، بعد أن أشعل محمد بوعزيزي النار في جسده ردا على المهانة التي تلقاها من شرطة البلدية. لحظة تاريخية لم تكن في حسبان أحد، لا الأنظمة ولا قوى الهيمنة ولا الأحزاب السياسية ولا حتى الثوار المنتفضين في تونس نفسها.

وإذا كان الراحل محمد الحفناوي قد أطلق هذا البيان، فإن التبعات التي توالت في عموم المنطقة العربية كالنار في الهشيم أكّدت أن الواقع في المنطقة كلها قابل للاشتعال عند أول شرارة، وهذا ما لم ترَه في حينه كل القوى السياسية والحزبية التي كانت تصدّع الرؤوس بضرورة التغيير والنضال من أجل "التغيير الديمقراطي" الذي تبنّته أحزاب اليسار العربي، وأكدته في لقائها في بيروت، أسابيع قليلة قبل 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، تاريخ انطلاقة الانتفاضة التونسية.

وبالمناسبة، كان قد دعانا إلى هذا اللقاء اليساري العربي، (22/10/2010)، سلامة كيلة وأنا، الحزب الشيوعي اللبناني في مناسبة ذكرى انطلاقته السادسة والثمانين، فاستبقه سلامة بمقالة بعنوان "الأحزاب الشيوعية العربية.. علينا أن ندفن موتانا"، نشرته صحيفة الأخبار اللبنانية قبل يوم من انعقاد هذا المؤتمر، اعتبر فيها سلامة أن الأحزاب الشيوعية العربية ليست فقط عاجزة عن إطلاق استراتيجية تغيير واقعية فحسب، بل أصبحت، ببناها ومرجعياتها الفكرية والتزاماتها السياسية، عائقا في طريق التغيير ينبغي التخفف منه، "لدى النظر إلى القوى التي "تحتل" الموضع الذي يخصّ الاشتراكية، وأقصد كل الأحزاب الشيوعية والماركسية، سوف نلمس أن مبدأ التغيير غائب، وأن الأفق الاشتراكي تحوّل إلى خيال، وأن البرامج المطروحة هي أقرب لأن تكون برامج قوى ليبرالية أو منظمات حقوق الإنسان، وتقوم على المطالب والمطالبة دون سياق لتحقيقها. فضلاً عن الأحزاب التي تكيفت مع السيطرة الطبقية للبرجوازية الكومبرادورية عبر مشاركتها في السلطة، أو حتى تكيفت مع الاحتلال. إنها إذاً أقرب إلى نشاط "نقابي" خامل، وهو الذي تبلور في سياسات الحركة الشيوعية العربية منذ سبعة عقود تقريباً، حيث النشاط المطلبي للطبقات و"النضال" الديمقراطي في السياسة". (مقدمة المقالة).

لم يواجه الشعب التونسي نظام الاستبداد المافياوي المحلي فحسب، بل كان في مواجهته كل النظام الدولي الذي أوعز بخلع رأس النظام من أجل الحفاظ عليه

لم نحضر اللقاء، ولكننا عقدنا لقاءات جانبية على هامشه. كانت ردود الفعل على مقالة سلامة متباينة بين غاضبة ومؤيدة.. ولم يدر في أذهان هؤلاء جميعا أن "مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني" في المنطقة يأخذ جل اهتماماتهم، (ليتهم أدركوا بالفعل سمات هذا المشروع) أن شيئا ما كبيرا قد يحدُث في أية لحظة على مستوى المنطقة نابعا من تحت، من حيث لا يستشعرون، من القيعان الاجتماعية المنضغطة حتى الانفجار، نتيجة حتمية لكل هذه السياسات المافيوية والاستبدادية التي تديرها الأنظمة وقواها المسيطرة على مدى عقود.

نعم، كنّا توقعنا هذا الحدث الكبير، وكنّا قد بدأنا بإمكاناتنا المتواضعة جدا تحضير أنفسنا لذلك. لم يهدأ التواصل بيننا وبين مناضلين من شتى الأقطار في محاولة لتأطير ما قد يسهم في هذا التحضير. مجموعات على منصّات التواصل الاجتماعي ربطت بين مئات من الشباب العربي من المغرب حتى البحرين، ومن العراق حتى السودان، ومن سورية ولبنان حتى اليمن. حوارات ونقاشات متواصلة هدفت إلى فهم حقيقي لما يدور على مستوى القاع الاجتماعي، والوصول إلى رؤية مادّية واضحة قادرة على استشعار الاحتمالات الممكنة وتلمسّها. لم نعرف متى وأين، ولكننا توقعنا الحدث... انطلقت الانتفاضة التونسية في 17 ديسمبر/ كانون الأول من سيدي بوزيد، وامتدت لتشمل كل البلاد التونسية وصولا الى العاصمة تونس. وفي ليل 14/15 فبراير/ شباط 2011، خرج محمد الحفناوي ليطلق بيانه في الشارع.

على مستوى الأحزاب والقوى التي طالما احتلت موقع التغيير فعطّلته، كانت المفاجأة التي وقفت حيالها ذاهلة مربكة. وقد صح فيها قول سلامة كيلة "علينا أن ندفن موتانا"، فماذا يعني أن يقف محمد نجيب الشابي قبل سويعات قليلة من فرار زين العابدين بن علي ليطرح مبادرة "حكومة ائتلافية" معه؟ كانت بالفعل "اللحظة التاريخية" التي هرم مناضلون كثيرون في انتظارها، فهذه أول مرة في زماننا وفي بلادنا يتمكّن الشعب فيها من خلع حاكم مستبدّ وإجباره على الفرار.

لحظة تاريخية لم تكن في حسبان أحد، لا الأنظمة ولا قوى الهيمنة ولا الأحزاب ولا حتى الثوار المنتفضين في تونس نفسها

لكن هذه اللحظة التاريخية لم تجد الجهة السياسية الاجتماعية المنظمة والنابعة من القاع الاجتماعي المتفجر، وتعرف متطلباته وتعرف بالتالي إمكاناته والأهداف التي يتوق إلى تحقيقها، وتمتلك الأدوات والإمكانات، وقبل كل ذلك الجرأة لتترجم هذه "اللحظة التاريخية" سياسيا، فتكون منطلقا لبناء نظام سياسي اجتماعي جديد بأفق إنجاز كل تلك الأهداف. ولكن ذلك لم يكن متوفرا، فكان أن "فرّت" تلك "اللحظة التاريخية" من بين الأيدي بدون أن تمثل نقطة انطلاق تاريخي جديد. وعلى الرغم مما شهدته الساحة السياسية التونسية على مستوى النظام من إرباك بعد فرار بن علي، لم يجرؤ أي من التشكيلات السياسية أو النقابية على التقدّم نحو الإمساك بزمام السلطة ولو مؤقتا، فساد الهرج بين رئيسي البرلمان والحكومة، إلى أن استقر الأمر لرئيس الحكومة الذي أسس لإعادة إنتاج النظام، ولو بمشاركة قوى كانت محسوبة على المعارضة، بهدف تهدئة الشارع واستعادة الاستقرار، وكأن بن علي مات وترك خلفه شغورا رئاسيا!

لم يواجه الشعب التونسي نظام الاستبداد المافياوي المحلي فحسب، بل كان في مواجهته كل النظام الدولي الذي أوعز بخلع رأس النظام من أجل الحفاظ عليه. قد يلحظ بعضهم شبها كبيرا بين خلع زين العابدين بن علي وخلع شاه ايران محمد رضا بهلوي. ألم تتشابه نهاية الرجلين حين لم يجدا من يستقبلهما، ثم أُوعِز للنظام المصري أن يؤوي الثاني كما أوعِز للسعوديين أن يؤووا الأول؟

كانت الانتفاضة/ الثورة التونسية، كما سائر ثورات الشعوب في العقدين الأخيرين، بما فيها ثورة الشعوب الإيرانية الحالية المتواصلة، وستبقى ثورات شعبية يتيمة، تواجِه باللحم الحي استبدادا دمويا داخليا وتواطؤا خارجيا من قوى النظام العالمي ذات المصلحة في تأبيد تخلف العرب وتمزّقهم واقتتالهم الأهلي المستدام، ولا ظهير لها لا داخليا ولا خارجيا يسهم في انتصارها، ما لم تتأطّر داخليا وتنتظم أحزابا وتنظيمات ثورية في بلداننا العديدة، ثم تنسّق فيما بينها وتتحالف وتتعاون وتتبادل الأفكار والخبرات، كي يصبح لدى هذه الشعوب نسق ثوري يُعتمد عليه، يقود انتفاضاتها الثورية الى حتمية انتصارها الذي ينهي هذا المسلسل الدامي الذي نغرق فيه.