"قمة النقب" .. الواقع العربي المخزي
إذا أردت دليلاً آخر على توهان البوصلة العربية، والأدلة أكثر من أن تعدّ وتُحصى، فيكفي أن تتابع ما جرى ويجري في السياق الفلسطيني. تُكتب هذه السطور قبل ساعات من اقتحام مزمع لعضو الكنيست الإسرائيلي اليميني المتطرّف، إيتمار بن غفير، ساحات المسجد الأقصى برفقة مستوطنين يهود متطرّفين صباح يوم الخميس، بحماية رسمية من الشرطة الإسرائيلية. يأتي ذلك بعد ثلاثة أيام فقط من ختام قمة فاضحة في النقب الفلسطيني المحتل، جمعت وزراء خارجية أربع دول عربية، الإمارات، البحرين، مصر والمغرب، بوزيري خارجيتي، إسرائيل، يئير لبيد، وأميركا، أنتوني بلينكن، زعم فيها الأخير أن أحد أهدافها يتمثل في تحريك مسار السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، في حين كان لبيد أكثر وضوحاً عندما وصفها بـ"البنية الجديدة التي ترهب وتردع أعداءنا المشتركين، وفي مقدمتهم إيران ووكلاؤها". أما الجانب الفلسطيني، الذي جرى استثناؤه من هذه التحرّكات الدبلوماسية فلم يجد أكثر من إدانتها؛ فحسب رئيس الوزراء، محمد اشتية، إن "لقاءات التطبيع العربي دون إنهاء الاحتلال ما هي إلا وهم وسراب ومكافأة مجانية لإسرائيل"، مغفلاً دور القيادة الفلسطينية الرسمية ومساهمتها في هذا المسار. سبقت ذلك ورافقته وتلته ثلاث عمليات عسكرية فلسطينية فردية في بئر السبع والخضيرة وتل أبيب أودت بحياة 11، وعدد آخر من الجرحى. هي فوضى تامة، في غياب قيادتين، فلسطينية وعربية، جادّتين، تنبئ بأننا قد نكون على أبواب انفجار جديد للأوضاع في فلسطين المحتلة، والمنطقة بشكل عام.
لا تشمل "سردية" عبد الله بن زايد قصة مائتي ألف فلسطيني يعيشون في النقب، وتمارس إسرائيل في حقهم أبشع أشكال الفصل والتمييز العنصري
مفارقات الابتذال العربي في قمة النقب، التي وُصفت بـ"التاريخية"، كثيرة. لم تكن أولها تلك الصورة التي تشابكت فيها أيدي وزراء خارجية الدول العربية الأربع، واحتل فيها بلينكن ولبيد واسطة العقد، بل مضت إلى أبعد من ذلك. خلال القمة، قال وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد: "للأسف، أضعنا هذه الأعوام الثلاثة والأربعين" (منذ أبرمت مصر وإسرائيل معاهدة السلام عام 1979)، وخسرنا على مدار هذه الأعوام معرفة بعضنا بعضاً بشكلٍ أفضل والعمل معاً، وتغيير السردية التي نشأت عليها أجيال من الإسرائيليين والعرب". وأضاف: "ما نحاول بلوغه اليوم هو تغيير هذه السردية وخلق مستقبل مختلف". طبعاً، لا تشمل "سردية" بن زايد قصة مائتي ألف فلسطيني يعيشون في النقب، أين كان يتكلّم، محرومين من الخدمات الأساسية، وتمارس إسرائيل في حقهم أبشع أشكال الفصل والتمييز العنصري، ولا تزال بلداتهم وقراهم تُجرف، ومنازلهم تهدم. دع عنك أصلاً أن تُعنى "سرديته" بأكثر من مليوني فلسطيني محاصرين، منذ قرابة عقد ونصف العقد، في قطاع غزة، على بضعة كيلومترات فقط من موقع قمة "اللحظة التاريخية"، كما وصفها وزير خارجية عرّاب اتفاقيات التطبيع العربية المعروفة بـ"الاتفاقات الإبراهيمية".
لم يشأ وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، كذلك، أن لا يترك بصمة عار خاصة به في سياق المزايدات والابتذال العربي في القمة. "لدى كل عائلة في إسرائيل شخص من دم مغربي. هذه ليست مزحة. هذا واقع"! يبدو أن بوريطة لا يفهم الفرق بين مواطن يهودي مغربي ومحتل إسرائيلي صهيوني، سواء أجاء من المغرب أم غيره. أما وزير الخارجية البحريني، عبد اللطيف الزياني، فلم يكن يعنيه من القمة إلا أنها "مفيدة لصد الجماعات المدعومة من إيران مثل حزب الله"، وكأن الرجل مصدّق أن إسرائيل ستقاتل دفاعاً عن بلده أمام عدوان إيراني لو وقع! وعلى الرغم من أن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، حاول أن يبدو كالعاقل العربي الوحيد هناك، إذ قال إن مصر لم تشارك في قمّة النقب "لتشكيل تحالفٍ ضد أي طرف"، بقدر ما أنها تجيء "بهدف تعزيز السلام وطرح وجهة نظر مصر للدفع باتجاه تحقيقه"، إلا أن هذا الزعم لا يعفيه ولا يعفي نظام بلاده من المشاركة المخزية تلك. أما ثالثة الأثافي فكانت في الخبر الذي جرى تداوله عن إلغاء زيارة وزراء الخارجية قبر "مؤسس دولة إسرائيل"، ديفيد بن غوريون، حتى "لا تستفز مشاعر الشعوب العربية"! الحمد لله الذي أبقى في وجوه بعض هؤلاء بعض خجل مزعوم، مع أننا نعلم أنه كاذب.
من يمارس تواطؤاً أمنياً مع المحتل، يشَرَّعَ أبواب التطبيع العربي واسعة، ويعيشه يومياً ليس له حق التذمر عندما ينخرط غيره فيه
على الجانب الفلسطيني الرسمي، لا يحتاج الأمر إلى كثير تفصيل، فالذي يمارس تواطؤاً أمنياً مع المحتل الإسرائيلي، وشَرَّعَ أبواب التطبيع العربي معه واسعة، ويعيشه هو نفسه يومياً ليس له حق التذمر عندما ينخرط غيره فيه ويتجاوزونه. لا تكمن مشكلة قيادة السلطة الفلسطينية في تغاضي بعض العرب عن الحقوق الفلسطينية التاريخية والثابتة، بقدر ما هي في تضاؤل دورها جسر عبور إسرائيلي إلى القلب العربي. خلال منتدى الدوحة، في العاصمة القطرية الأسبوع الماضي، وفي ندوة شاركتُ فيها، تحدّث رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، شاكياً من الانتهاكات الإسرائيلية، وكان في الحضور مسؤولون أميركيون سابقون. وتذمر من أن وزير الدفاع الإسرائيلي، بني غانتس، احتاج خمسة أيام ليحصل على إذن من رئيس وزرائه، نفتالي بينت، ليلتقي بالرئيس الفلسطيني، محمود عباس. كانت المفاجأة حين قال اشتية، مستهزئا، إن بينت لم يسمح لغانتس بعقد اللقاء إلا بعد تثبيت "ثلاث لاءات" كـ"لاءات الخرطوم"! طبعاً: "لاءات الخرطوم" التي تبنتها القمة العربية المنعقدة في العاصمة السودانية، بعد الهزيمة العربية في يونيو/ حزيران عام 1967، تلخصت في "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل". إذا كانت هذه اللاءات الثلاث عربياً، التي كنَّا نفتخر بها يوماً، تصلح مادّة للسخرية فلسطينياً، حتى ولو على سبيل المثال، فماذا ترتجي بعد ذلك من قيادةٍ كهذه؟
للأسف، كل ما سبق الحديث عنه تأكيد للواقع العربي الآسن والمخزي، وليس فيه جديد، اللهم إلا تعزيز سرديته. لكن بقاء الحال من المحال، والانفجار قادم. أما في أي اتجاه، وهل يكون مقدمة للبناء أم لمزيد من الخراب، فالإجابة ستعتمد على كيف نتعامل مع الأمر.