"العدالة والتنمية" المغربي ضحية تناقضاته
مرة أخرى، وضع حزب العدالة والتنمية في المغرب، والذي يدّعي انتماءه إلى المرجعية الإسلامية، نفسه أمام تناقضات خطابه المرجعي مع ممارسته السياسية، عندما وجد أمينه العام ورئيس الحكومة في الآن نفسه، سعد الدين العثماني، نفسه مجبراً على التوقيع على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو الذي لطالما اعتبر التطبيع جريمة، واعتبر فلسطين قضية سياسية وأيديولوجية ودينية لا ينبغي التخلي عنها. ولا حاجة إلى العودة إلى أدبيات الحزب ومواقفه السابقة وكتابات قادته وتصريحاتهم القطعية للوقوف على هذا التناقض الصارخ في المواقف، والتخلي الفاضح عن المبادئ التي كانت تعتبر التطبيع خطّاً أحمر، والقضية الفلسطينية فوق كل اعتبار، وذلك حتى أيام قليلة قبل توقيع زعيم الحزب على اتفاق التطبيع ليشكّل حالة فريدة من نوعها لم يسبقه إليها أي تنظيم محسوبٍ على الإسلام السياسي في المنطقة العربية. أما التبريرات التي صدرت بعد ذلك عن قيادات حزبية وعن برلمان الحزب، وبعض المواقف الخجولة التي عبر عنها بعض رموزه عندما أعربوا عن امتعاضهم من موقف حزبهم وتصرّف أمينهم العام، بل وإقدام أحدهم على تجميد عضويته، ربما مؤقتاً، داخل التنظيم، وحتى تنديد حركة التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي والأيديولوجي للحزب، بما وقع، فقد بدت كلها بمثابة توزيع أدوار سمجة في مسألةٍ مبدئيةٍ لا تقبل مثل مزايدات سياسوية كهذه، ولعب على العواطف واستخفاف بذكاء العقول المؤدلجة، لأن الحقيقة جلية واضحة، وحبل الكذب والتبرير قصير.
مسألة قبول زعيم الحزب التوقيع على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى لو لم يكن الحزب صاحب المبادرة، وتبرير أجهزة الحزب وقادته هذا الموقف المخجل بما هو مخزٍ وعار، لا يطرح فقط سؤال مدى التزام الحزب بما تنصّ عليه مرجعيته الإسلامية، وإنما تضع مصداقية خطابه على المحكّ، بما أن التفسير الوحيد لهذا السلوك في القاموس السياسي تختزله كلمة واحدة هي الانتهازية التي تدفع صاحبها إلى التضحية بمبادئه من أجل مصالحه النفعية الضيقة والآنية. وإذا كان الحزب قد دأب على تفسير تحولاته السياسية السابقة باللجوء إلى استعمال مفهوم هلامي، هو الاعتدال، لشرح براغماتيته السياسية عند كل تحوّل كان يقوم به أو يُفرض عليه، على الرغم من تناقض هذا التحول مع مبادئه ومرجعيته، فإن استدعاء هذا المفهوم في حالة التطبيع أخيراً يكشف عن مدى تقلبات الحزب، المذهبية والفكرية الصارخة التي تجد تفسيرها في مسار التحولات الكبيرة التي مرّ بها منذ تأسيسه، وأيضاً في مفهومه المتناقض والغامض للممارسة البراغماتية للسياسة.
المفارقة لدى قادة حزب العدالة والتنمية تكمن في استمرار استغلالهم الانتهازي الأيديولوجيا الدينية للتدافع داخل حقل سياسي متحوّل ومتقلب بطبعه.
في قضية الموافقة على التطبيع وتبريره والسكوت عليه، بل والاستمرار فيه والمزايدة على من ينتقدون موقف الحزب منه، تصبح الأعذار والتبريرات أكبر من الخطيئة الكبرى، لأن الأمر لا يتعلق ببراغماتية أو واقعية سياسية، كما يحاول بعض قادة الحزب تبرير ذلك، وإنما بمسألة أخلاق ومبدأ، لأن الموضوع هنا هو التطبيع مع كيانٍ مغتصبٍ عنصري ومجرم ومحتل، وعلى حساب معاناة شعب محتلة أرضه، ومهضومة حقوقه، وأبناؤه إما لاجئون في الشتات أو معتقلون داخل السجون الصهيونية أو محاصرون من طرف العدو الغاصب نفسه الذي يتم اليوم التطبيع معه بدعوى البراغماتية السياسية!
يطرح الموقف الذي وضع فيه حزب العدالة والتنمية في المغرب نفسه السؤال بشأن مصداقية التيارات السياسية التي يُفترض أنها تُركّز أجندتها السياسية على التعبئة حول المرجعية الإسلامية. وأكثر من ذلك، يثير شكوكاً جدّية في المنطق السائد لدى الإسلاميين، عندما يولون إدارة الشؤون السياسة. لذلك الأمر أكبر من مجرد تناقض في المواقف، أو تعبير عن براغماتية سياسية، وإنما غياب للمنطق الذي يمكن أن نحتكم إليه مقياساً لقوة وتماسك العرض السياسي والهوية الأيديولوجية لأصحاب هذه التعبيرات السياسية. فإذا كانت الممارسة السياسية اليومية تفرض على الحزب إعادة صياغة عقيدته باستمرار، وهو ما يدعو كثيرين من أنصاره إلى الشك في المكانة التي ينبغي أن تحتلها المرجعية الدينية في سلوكه السياسي، فإن المنطق البراغماتي يتحول، مع مرور الوقت، إلى محدّد أساسي لاستراتيجية الحزب السياسية، وبالتالي يدفع بمرجعيته الدينية إلى الوراء مقابل تحوّله إلى فاعل سياسي، مثل باقي الفاعلين الآخرين. وهذا خيار لا أحد يعارض الحزب وقادته في التوجه نحوه إذا ما قرّروا ذلك، لكن المفارقة تكمن في استمرار استغلالهم الانتهازي الأيديولوجيا الدينية للتدافع داخل حقل سياسي متحوّل ومتقلب بطبعه.
المنطق البراغماتي يتحول، مع مرور الوقت، إلى محدّد أساسي لاستراتيجية الحزب السياسية
لقد أدّى نهج الحزب المنطق البراغماتي، وبانتهازية، في عدة مناسبات، بالقفز على مبادئه ومواقفه، إلى سقوطه في تناقضات كبيرة، تشكل اليوم عبئاً كبيراً عليه، بعدما كانت تمثل نجاحاً لاندماجه في العمل السياسي، وهو ما يفسّر تضارب تبريراته غير المقنعة، وتضارب تصريحات قادته التي تحاول رفع الحرج عنها، بعدما وجدت نفسها تبحث عن تبريراتٍ سمجة لا يقبلها منطق العقل، بل وتزيد تأكيد انتهازية الأشخاص الصادرة عنهم.
وإذا كان الحزب قد دأب على نهج أسلوب البراغماتية في كل استراتيجياته السياسية السابقة التي مكّنته من تحقيق مكاسب سياسية، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على قاعدة انتخابية صلبة، فإن الموقف الأخير يضعه على محك اختبار مشروعيته الانتخابية، وهو ما ستكشف عنه الانتخابات المرتقب إجراؤها هذا العام، فكيف للناخبين، بمن فيهم المؤدلجون المنتسبون لخطه الفكري، الثقة بمصداقية وعوده الانتخابية، في وقت يخون الأسس المذهبية لمرجعيته الدينية وعقيدته السياسية؟!