"الإسلاموية اليسارية" في فرنسا والاستعمال الزائف
بين اتهام وزير الداخلية الفرنسي، جيرار دارمانيان، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرّف، مارين لوبين، بالليونة والسهولة تجاه الإسلام السياسي، في مناظرة على القناة الثانية الفرنسية، واتهام وزيرة التعليم العالي والبحث الإعلامي، فريديرك فيدال، في برنامج على قناة سي نيوز (فوكس نيوز الفرنسية) الجامعات الفرنسية بتحوّلها من مكان للبحث العلمي إلى مكان للنضالات الإسلاموية اليسارية، يمكن القول إننا نسجل، بوضوح، الفصل الثاني، وربما الأخير، من عهدة الرئيس الفرنسي، ماكرون، الرئاسية، المتسم بتحول يميني واضح وبمغازلة اليمين المتطرّف.
ما كل مرّة تسلم الجرة، إذ ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها أحد أعضاء الحكومة هذا المصطلح، ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ندّد وزير التعليم الوطني، جان ميشيل بلانكير، بما سماها "الإسلاموية اليسارية" التي تُسبب، على حد قوله، "الفوضى في الجامعة"، ولكن إذا كان هذا التصريح مرّ من دون رد فعل جماهيري كبير، سوى طلب بعض زعماء اليمين إحداث بعثة برلمانية لتقصّي الحقائق بشأن ما يسمونها "الانحرافات الفكرية الإيديولوجية في الأوساط الأكاديمية"، فإن تصريح الوزيرة، النكرة إعلاميا قبل هذا الحدث، أحدث جدلا صاخبا في الأوساط الجامعية، لكونه تجاوز حد المقبول من وزير مسؤول عن القطاع، حيث صرّحت إن الظاهرة "الإسلاموية اليسارية" قد سمّمت المجتمع الفرنسي بصفة عامة، والجامعات خصوصا، وضربته بمرضٍ عضال قاتل، مطالبة من المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) القيام بمهمة استطلاعية داخل مراكز البحوث الجامعية، هدفها التأكد من عدم وجود تيارات فكرية مناضلة، ومن أجل التمييز بين ما يدخل في نطاق الأبحاث العلمية الأكاديمية وما يدخل في إطار الأنشطة والآراء النضالية داخل الجامعات.
مصطلح الإسلاموية اليسارية شعار سياسي يستخدم في النقاش العام، ولا يتطابق مع أي واقع علمي
ردود الفعل لم تتأخر، أولا من المركز المكلف بالمهمة، وهو مركز علمي مرموق ذو سمعة عالمية، فقد نشر بيانا يقول فيه إن "مصطلح الإسلاموية اليسارية شعار سياسي يستخدم في النقاش العام، ولا يتطابق مع أي واقع علمي. وهو، بما يحدّده من ملامح غير محدّدة، هو موضوع عديد من المواقف العامة أو المحافل أو الالتماسات التي غالبا ما تكون حماسية". ومن هنا انقلب السحر على الساحر، فالمركز الذي قبل المهمة على مضض ينطلق من مسلّمةٍ لا غبار عليها، أن المصطلح سياسوي شعبوي، ولا يرقى إلى درجة الاصطلاح العلمي أو التعريف العلمي الأصيل.
لم يكتف المركز بلكمةٍ واحدة للحكومة الفرنسية، بل أضاف لكماتٍ أخرى، حيث دان بشدة الذين يحاولون الاستفادة من استعمال "الإسلاموية اليسارية" لضرب الحرية الأكاديمية الضرورية للمناهج العلمية والتقدّم المعرفي، أو لوصم بعض الأوساط العلمية، كما دان المركز، على وجه الخصوص، في البيان نفسه، المحاولات الرامية إلى نزع الشرعية عن مختلف ميادين البحوث، مثل الدراسات حول "ما بعد الاستعمار"، أو الدراسات المتداخلة المتعلقة بمواضيع القمع المتعدّد الجوانب، أو الأعمال المتعلقة بمصطلح "العرق"، أو أي ميدان آخر للمعرفة.
أما رؤساء الجامعات الفرنسية فقد عبروا عن موقفهم من خلال هيئة رسمية، حيث دعا "مؤتمر رؤساء الجامعات" إلى "الرفع من مستوى النقاش"، معربا، في بيان له، عن "دهشته من جدل جديد عقيم حول مفهوم زائف يلتمس تعريفه العلمي من دون جدوى، والذي ينبغي أن يترك لليمين المتطرّف الذي أشاعه". أكثر من هذا، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية يوم أول من أمس السبت (20 فبراير/ شباط) عريضة وقعها أكثر من ستمائة من الجامعيين والباحثين المعروفين يطالب بإقالة الوزيرة.
لا بد من ذكر تفاعل السياسيين ورواد شبكات التواصل الاجتماعية الذين اتهموا الوزيرة بمحاولة إحداث "شرطة الأفكار"
لو قال هذا زيد أو عمرو لاتُهم في وطنتيه وإخلاصه للجمهورية الفرنسية، لكنه كلام النخبة العلمية، وزبدة الأكاديميين في فرنسا، ولكلامهم وزنه وقيمته في الوسط العلمي قبل السياسي، فهل ستعتبر الطبقة السياسية الفرنسية أم أنها تلهث وراء الأصوات الانتخابية التي أصبحت أكثر يمينيةً، كي لا نقول أكثر تطرّفا في مشهد يذكّر بالمشهد الأميركي، وما حققه ترامب من نتائج على الرغم من خسارته! ومن هنا، لا بد من ذكر تفاعل السياسيين ورواد شبكات التواصل الاجتماعية الذين اتهموا الوزيرة بمحاولة إحداث "شرطة الأفكار"، وقمع الحرية الفكرية، مطالبين الحكومة بتغيير توجهها القامع للحريات، وذي التوجه السلطوي الذي يريد أن يهيمن حتى على حرية الفكر والتفكير وحرية البحث العلمي، بل نجد أن رموزا في الأغلبية الرئاسية، مثل وزير التربية السابق، فرانسوا بايرو، يبدي امتعاضه، ويوضح أن الجامعة الفرنسية لا تعاني من هذه الظاهرة، بل تعاني، خصوصا مع الأزمة الصحية التي أحدثها كوفيد 10، من مشكلات كبرى يجب مواجهتها في مقابل مواجهة هذا النوع من الأسئلة التي تتمحور دائما حول الإسلام أو الدين.
يأتي هذا كله في وقتٍ كان لزاما على "الوزيرة الشبح"، كما لقبها الطلبة، القيام بتعبئة شاملة للعناية والاهتمام بفئة الطلاب التي تفاقمت هشاشتها جرّاء إغلاق الجامعات بسبب جائحة كورونا، حتى رأينا على شاشات التلفزة تقاطر عديدين منهم على مراكز الإعانة الاجتماعية، ووقوفهم في طوابير الانتظار، للحصول على لقمة عيشٍ مدعومة من الحكومة، ويأتي في خضم الكشف عن اعتداءاتٍ جنسيةٍ عديدة تعرّضت لها سنوات عدة طالبات من أعرق الجامعات والمعاهد الفرنسية.
كلام الوزيرة يدخل في إطار استراتيجية حكومية، تدل على توجه عام يدير خيوطه، وبكل "حصافة"، الرئيس ماكرون
لا يمكن تفسير كلام هذه الوزيرة وغيرها إلا في سياق التملق والشعبوية التي ضربت أعضاء عديدين في الحكومة الفرنسية، في محاولة للحفاظ على مواقع سياسية، أو الحصول عليها، مع قرب الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام المقبل. ويخطئ من يظن أن هذا الكلام مجرد زلة لسان، بل يدخل في إطار استراتيجية حكومية، تدل على توجه عام يدير خيوطه، وبكل "حصافة"، الرئيس ماكرون، فقد أصبح هاجسه الأول والأخير أن يكون مصيره مثل مصير سابقيه، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، اللذيْن أجلاهما الشعب الفرنسي بعد ولاية واحدة ووحيدة.
ومن ثمة، تم استخراج مصطلح "الإسلاموية اليسارية" ونفض الغبار عنه، فهو قديم جديد، استعمل بداية لاتهام جزء من اليسار الفرنسي بمعاداة السامية والمناصرة غير المشروطة للحق الفلسطيني، ثم اتهم به كل من ناضل ضد قانون منع الحجاب في 2004، ثم تحول الاتهام إلى كل من تجرأ وحاول تفكيك خطاب الكراهية التي يتعرّض لها المسلمون، للتفريق بين ظاهرة الإرهاب وجذوره، الاجتماعية والدينية، وهو يخرج اليوم لدغدغة مشاعر المنزعجين من حضور المسلمين في بلدٍ له تاريخ عريق دونهم.