"إذلال" روسيا
أعادت الهزائم العسكرية الروسية المهينة في أوكرانيا بعث النقاش حول ما إذا من الحكمة "إذلال" روسيا إلى الحد الذي قد يدفع الكرملين إلى تبنّي خياراتٍ أكثر قسوة ودموية لمعاقبة كييف وحفظ ماء الوجه في ساحة المعركة. وكانت القوات الأوكرانية قد أطلقت، في الأيام القليلة الماضية، هجوماً مضادّاً واسعاً في شمال شرق البلاد، تمكّنت على أثره من استعادة آلاف الكيلومترات من الأراضي التي تحتلها القوات الروسية، وتحديداً في إقليم خاركيف. وبسبب تعثّر جهود الحرب والعجز الذريع الذي أبانت عنه قواته على أرض المعركة، يجد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه في وضع حرج، إذ إن "العملية الخاصة" التي أطلقها في أوكرانيا قبل ثمانية أشهر تقريباً، وأراد منها ترسيخ صورة بلاده قوة دولية لا يستهان بها، تكاد الآن تقوّض أسس حكمه وشرعيته. ومع استمرار تدفق الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، خصوصاً من الولايات المتحدة، والعقوبات الاقتصادية الخانقة على موسكو، والتقدّم المضطرد للقوات الأوكرانية على الأرض، ثمَّة من يحذّر من أن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد كبير، وتداعيات قد تهدّد استقرار أوروبا كلها، إن لم يكن أبعد من ذلك.
واحد من السيناريوهات التي قد تلجأ إليها روسيا لتعويض تراجعها وانكسار هيبتها يتمثل في رفع التكلفة البشرية والعسكرية والاقتصادية على أوكرانيا، عبر شنِّ عمليات قصف جوي ومدفعي عنيف على مدنها الرئيسة، بما في ذلك العاصمة كييف، تطاول المدنيين والبنى التحتية، على غرار ما فعلته أواخر التسعينيات في العاصمة الشيشانية، غروزني. وقد اتّبعت روسيا، لاحقاً، الإستراتيجية المتوحشة نفسها في سورية، وخصوصاً في حلب عام 2016، وهو ما أدّى إلى سقوطها في يد النظام. وثمَّة من يذهب في هواجسه إلى أبعد من ذلك، إذ يحذّرون من أن بوتين اليائس قد لا يتردّد في استخدام الأسلحة الكيميائية في ساحة المعركة، بل وحتى النووية التكتيكية لدبّ الرعب بين الناس وإرغام أوكرانيا على الاستسلام. ويتوسّط هذين التحذيرين القاتمين ثالث يقترح أن بوتين قد يجد نفسه مضطرّاً إلى إعلان الحرب والدعوة إلى التعبئة العامة وفرض التجنيد الإجباري لزيادة عدد القوات النظامية المقاتلة في أوكرانيا ضمن ما تسمّيه موسكو إلى حينه "عملية خاصة".
يتبنّى الألمان والفرنسيون، تحديداً، الدعوة إلى عدم الذهاب بعيداً في "إذلال" روسيا
ورغم أن أيّاً من هذه الخيارات غير مرجّح بعد، لما لكل واحد منها من تداعيات سلبية على روسيا نفسها، تشمل مكانتها وسمعتها وأمنها، وحتى تحالفاتها مع دول مثل الصين، إلا أنه لا ينبغي استبعادها بالكلية. وشهدت الآونة الأخيرة تصاعداً للضغوط على بوتين، حتى من أقرب حلفائه في روسيا، لتقديم حلول سريعة وناجعة للإهانات المتتالية التي تتلقّاها القوات الروسية في أوكرانيا. يضاعف من حجم تلك الضغوط تأكيدات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عزم قواته على تحرير كل الأراضي المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا عام 2014 وضمّتها إليها لاحقاً، فضلاً عن تقدّم القوات الأوكرانية نحو المنطقتين الانفصاليتين في دونيتسك ولوغانسك، في إقليم دونباس في شرق أوكرانيا. وإذا أضفنا إلى التعثر العسكري ذاك وطأة الضغوط الاقتصادية الغربية على موسكو وتزايد عزلتها العالمية، وتداعيات ذلك على المواطنين الروس، وخشية بوتين على استقرار نظام حكمه، فإن دفع هذا الأخير إلى مربع اليأس لن يكون أمراً حكيماً.
نجح الغرب، بقيادة واشنطن، إلى حد كبير، في استنزاف روسيا، وربما إجهاض كثير من قدراتها في المدى المنظور
يتبنّى الألمان والفرنسيون، تحديداً، الدعوة إلى عدم الذهاب بعيداً في "إذلال" روسيا، مع تأكيدهم، في الوقت نفسه، على ضرورة حرمانها من إمكانية تحقيق نصر عسكري في أوكرانيا. ولا يُخفي مؤيدو هذه المقاربة في التعامل مع موسكو أن أهدافهم تتجاوز أوكرانيا إلى استقرار أوروبا نفسها، والتي تئن اليوم تحت وطأة نقص موارد الطاقة الروسية. في المقابل، ثمَّة معسكر آخر تتزعمه الولايات المتحدة وبريطانيا، يرى ضرورة إبقاء الضغوط على روسيا إلى الحد الذي يُفقدها القدرة على شنِّ حروب أخرى مستقبلاً. إلا أن هذا المعسكر، حريصٌ هو الآخر على عدم دفع موسكو إلى حافّة الهاوية، حيث يكون استقرار النظام أو أمن الدولة مهدّدين، بشكلٍ قد يؤدّي إلى عواقب غير محسوبة، مثل اللجوء إلى السلاح النووي.
في كل الأحوال، من الواضح أن الغرب، بقيادة واشنطن، قد نجح، إلى حد كبير، في استنزاف روسيا، وربما إجهاض كثير من قدراتها في المدى المنظور. وبدل أن تكون أوكرانيا بوابة بوتين لإعادة تأكيد العظمة الروسية دولياً ولجم خطط حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمحاصرتها، فإنها تبدو اليوم أقرب إلى مقبرة لتلك الطموحات. إلا أن ذلك يقتضي الاعتراف، أيضاً، بأن المشهد النهائي للقصة لم يُكتب بعد، وأن أشياء كثيرة قد تتغير، بحيث تؤدّي إلى قلب الموازين القائمة اليوم.