حين مزّقت السياسة والتجارة قميص عاشوراء

27 أكتوبر 2014
عاشوراء تستبدل ثوبها الديني بآخر سياسي اقتصادي(محمد الشيخ/Getty)
+ الخط -

عندما كنت صغيراً لم أرَ الحزن الكربلائي في ثياب المارّة. كانت المناسبة في قريتي محصورة بإيمان القاطنين هناك، لا بملابسهم السوداء ولا بالرايات المنتصبة في كلّ مكان ولا باليافطات والأقمشة التي تطوّق فضاء القرية الصغيرة.

كانت عاشوراء مناسبة دينية اجتماعية. يتجمَّع الناس عند المغيب في الحسينية للاستماع لمجالس العزاء البسيطة. يبكون شهيدهم الحسين ومآساة أهل البيت.

كان الرجال يأتون بثيابٍ عادية. لم يكن الأسود يليق بأيّ شيء. كان الأسود استثناءً. كان الأسود، إن وجد، يحيل بنا إلى ذاكرة الحزن فقط. كان يشحذ الشباب هممهم من أجل تدبير سير المجالس وفقاً لعادات وتقاليد أهل القرية. كانت مجالس عاشوراء محاكاة دينية رمزية بعيدة عن الاستلاب.

ماذا حصل بعد أن أصبحت القرية مسرحاً كربلائياً مجهَّزاً لاستقطابٍ سياسي؟ ماذا حلّ بمناسبة تلاشى الدين فيها وخفتَ لصالح السياسة؟

تدريجياً، أصبح ثمّة اقتصاد سياسي للمناسبة الدينية الاجتماعية. أصبح الناس "مستهلكين" والقادة الدينيّون السياسيّون "مروّجين" والباعة حاضرون لكلّ مناسبة.

إنّه سوق كربلاء لمن اشترى وباع. التجهيزات المسبقة تشي بموسم مزدهر للتبادل التجاري. منشد اللطميّات يتكدّس في اسطوانة مدمجة. الشباب يحوّلون السيّارات إلى مجالس عزاء متجوِّلة. يخرج المنشد من السيارة ليزعق بالمارّة والسائق ينظر، يتلفت إلى فتيات الساحة ويصدّر لهم نظرات ملتبسة. لم يكتفِ بتجهيزات الصوت في سيّارته ليقول "أنا من حسين وحسين منّي"، لقد اشترى مكبرات الصوت ليحوّل بها ساحة القرية الى أرض كربلاء عنوةً.

أصبح السواد يلفّ عيوناً ما برحت أن استراحت من ذرف الدموع. اتّشحت القرية بأوامر القادة ونواهيهم. القادة يأمرون برفع الرايات السوداء على المنازل، والباعة يحضرون بسطاتهم الثابتة والمتجوِّلة لينتفعوا من الذكرى. القادة يأمرون بارتداء الأسود كرمز انتماء ديني سياسي للجماعة والباعة يفردون تشكيلة الملابس السوداء في الواجهات. تصبح واجهات بنسائها البلاستيكية جنازة حاضرة.

هذه المجسّمات البلاستيكية كانت ترتدي الألوان قبل قليل. كانت تروّج الفساتين القصيرة المزركشة. هذه المجسّمات تعلن الحداد الآن. واجهات المحلات تعرف الحسين والزهراء وزينب وأفراد أهل البيت.. تعرف أنّ كربلاء إنتاج لا ينضب. القادة يأمرون بالحزن والباعة يقيسون القماش الأسود بالأمتار، يقيسونها يافطةً ورايةً وعباءةً. القادة يردِّدون شعارات المناسبة والخطّاطون يستلّون ريشهم لتلوين الأسود بالأحمر السائل كدم الحسين.

إنه اقتصاد كربلاء... الحزن المكعّب والمغلَّف بالسكر الناعم. إمعس. قطعتي بسكويت وحبة راحة. أشعل النار تحت القدرة العملاقة. إهرس القمح ويا لثارات الحسين. قصّ الأقمشة. إرفع الراية. عصّب جبين أولادك بربطة "لبّيك يا حسين". احتل الساحات والشجر وأعمدة الإنارة. إخرج واستمع لمجالس تحكي عن ثارات على السلسلة الشرقية للبنان. نعم، كربلاء يُعاد إنتاجها بما تشتهي السياسة والاقتصاد.

عاشوراء تخلع عنها البعد الديني، أو أنها ترتدي ثوباً آخر فوقه. ثوب السياسة. ثوب استقطاب عصب الجماعة وشدّه. كأنّنا لم نعد قادرين على محاكاة الحادثة الدينية التاريخية إلا من باب السياسة، وتحت الراية السوداء، أو من خلف يافطات عملاقة. لم نعد نحزن إلاّ بأمر. لا نبكي الحسين وأهل البيت إلاّ بأمر. لم نعد نعتبر من سيرة الحسين إلاّ "بالقمصان السوداء".

 

دلالات
المساهمون