معرض "أطيافنا أطيافكم"... هارموني السرد من القارّات

01 يوليو 2024
من الأعمال المعروضة (متاحف قطر)
+ الخط -

في عشرة هياكل نحتية تفضي بعضها إلى بعض عبر ممرات متعرجة، محفوفة بضوء خافت، يسرد المعرض التجهيزي "أطيافنا أطيافكم" (Your Ghosts Are Mine)، على طريقة ألف ليلة وليلة، مواضيع تختلف وتشتبك في عوالم الفنون البصرية والفيديو والسينما التجريبية. هنا، اختارت متاحف قطر قصر كافالي فرانكيتي المطل على أحد الجسور الأربعة التي تقطع القناة الكبرى في مدينة البندقية لتكشف عن تجربة تجمع متحفين: المتحف العربي للفن الحديث ومطاحن الفن المزمع افتتاحه في 2030 بالشراكة مع مؤسسة الدوحة للأفلام. تستمر حتى الـ24 من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل تزامناً مع بينالي البندقية للعمارة في دورته الستين.

خمسون عملاً من الأفلام السينمائية والفيديو آرت، كان على القيم الفرنسي ماتيو أورليان مسؤول المعارض المؤقتة في المكتبة السينمائية الفرنسية منذ 2004 أن يستخرج منها رؤى إبداعية، ستشكل زوايا نظر وخيال لو كانت قادمة من منطقة إبداعية واحدة، كما هي الحال عند تنظيمه معارض استعادية لصانعي أفلام شهيرين، مثل بيدرو ألمودوفار، ودينيس هوبر وجاك ديمي وجوس فان سانت، أو مجموعة من المخرجين أو واحدة من الموجات السينمائية. فما بالك على شاشات عرض مختلفة الثيمات ومتعددة أحياناً في مكان واحد اشتغل عليها المعرض، حيث يجوب بساط الريح جنوب البحر المتوسط ومنه جاءت غالبية المواد التي تغطي العالم العربي والشرق الأوسط، إلى جنوب شرق آسيا حتى الكاريبي إلى قارة أفريقيا، بل إلى أقصى جنوبها حيث الدولة الصغيرة ليسوتو المجهولة في عالم الأضواء، والمحاطة كلياً بدولة جنوب أفريقيا تحمل فيها امرأة مرهقة صليبها الخشبي على ظهرها وتعبر المشهد الإنساني من دون حاجة إلى الترجمة.

من آخر عروض أورليان وجاء عنوانه "دفتر القصاصات"، جمع بما يشبه فن الكولاج قصاصات من تجارب سينمائية وسير أصحابها والكواليس السابقة لعمل الفيلم، وهو أرشيف مذكرات كالذي تعمله العائلات بما فيه من صور وقطع قماش ملصقة مع كتابات وغيرها. وهو الآن مع مساعديه القيّمين ماجد الرميحي وفيرجيل أليكساندر، يقتطع بضع دقائق من الأفلام الوثائقية والروائية أو يتركها على حالها، مثل عرض الفيديو لوائل شوقي "العرابة المدفونة 3"، ليشكل هذا السجل الذي يحول صفحات الكشكول إلى شاشات تتصفحها.

غير أن الفكرة التي أدهشت المتابعين هي هذه الهارمونية التي تجعلهم أمام عدة شاشات مرة واحدة للبحث عن معنى مشترك ومكتسب لفرادته في كل مرة، فأنت لا تقطع تذكرة لمشاهدة أفلام تستغرق ساعات، بل تخوض رحلة غنية تعبر عن توجه طاغ منذ عقود يجعل الفنون البصرية شاملة لكل عمل فني منفتح على المفاهيم الجمالية، مستعيراً بحريّة ما يبتغيه.

يصعد بنا درج القصر المبني قبل 450 عاماً بنوافذه الرُّمحية وزخارفه القوطية إلى الطابق الثاني حيث توقفنا لوحة Your Ghosts Are Mine ومقابلها بالعربية "أطيافنا أطيافكم". ولربما اعتمد العنوان العربي لتخفيف الحمولة الشبحية التي تنزاح إلى صورة غير مريحة. كانت المؤدية الفلسطينية دانا الدجاني في بهو القصر الذي غص بالحضور، خصوصاً من ضيوف مؤتمر "الفن من أجل الغد" باعتبار متاحف قطر الراعي المؤسس له والصحافيين تقدم قصيدة "قافية من أجل المعلقات" للشاعر محمود درويش، تجزئ الكلام وتلقيه متلاحقاً بالتناوب بين الإنكليزية والعربية. لربما كانت أشباح الذين "أخذوا روائحهم عن الفخار وهاجروا" بالتدفق الذهني ذاته لأشباح الجماعة وللفرد حين يقول "وجدت نفسي عند خارجها كما كانت معي"، ولو ترك للهواء أن يسقط من الأعلى نصاً شعرياً، لكان درويش يقول كما في "أرى ما أريد": "أطل على شبحي قادماً من بعيد" أو في "جدارية": "ولي شبحي وصاحبه". من هذه القطعة الشعرية والأدائية التي قدمتها الدجاني، يمكن تلمّس الفكرة التي تدافع عنها متاحف قطر في معرضها. هذه سينما، أي لدينا فن قائم بذاته ومرحب بكل الاقتراحات البصرية والسردية الأخرى، لكنه يعرض في الصالات التي تتخذ شكل المسرح. وهنا في التجربة المتعرجة، يختفي الشكل التقليدي فلا نتابع أفلاماً كاملة، بل مقتطعات مع أعمال فيديو آرت قادمة من متحفين قطريين، تمنح في الآخر دلالات جديدة، لا بل تنتج خطاباً جمالياً ونقدياً وطيفاً متعدد الجذور الثقافية في أرض واحدة.

ربما يصلح للتدليل على ذلك عرض "العرّابة المدفونة 3" وهو الجزء الثالث من مشروع تجهيزي للفنان المصري وائل شوقي باكورة "العرابة 1" عام 2012. إذا كان شوقي قادماً من الفن التشكيلي والنحتي، فلم لا يضعنا، إضافة إلى ذلك، أمام سينما مقالية مستلهمة من قصص الكاتب المصري محمد مستجاب (1938- 2005)؟ إنه يشعر بالحرية وهو يجعل الأطفال القرويين بشوارب يرتدون العمائم ويؤدون أدوار البالغين، ويظهرون كما نيغاتيف الصور ليحكوا حكاية "عباد الشمس" في الجنوب المصري، حيث المكان الريفي يعج بالأساطير وتمثل فيه بذور عباد الشمس استعارة للتغيير، وقد كانت مجرد بذور محتقرة بين الحبوب الكريمة الأخرى القمح والشعير. الارتحالات بين السينما والفنون التجهيزية والأدائية والفيديو بحثاً عن مفاهيم جديدة في الخطاب الفني كانت الشغل الشاغل لماتيو أورليان. ولدينا العديد من الأمثلة، آخرها معرض رسام الكاريكاتير السوداني خالد البيه "شاهد" السمعي البصري عن حرب الإبادة في قطاع غزة، والمستمر في المتحف العربي للفن الحديث حتى 8 أغسطس/آب المقبل.

نجد كذلك في معرض "أطيافنا أطيافكم" الفنانة الفوتوغرافية والتجهيزية المغربية رندة معروفي، مع فيلمها الوثائقي "بوابة سبتة"، والفنان اللبناني علي شري باختصاصاته المتعدة في النحت والفيديو آرت وهو حاضر في المعرض بفيلم "السد"، أول فيلم سينمائي طويل، فانتازي تسجيلي يدور على مسافة ليست بعيدة عن سد مروي الضخم في السودان لتوليد الطاقة الكهرومائية، حيث يشتغل عامل موسمي في مصنع طوب تقليدي تغذيه مياه نهر النيل. كل مساء، يتجول سرّاً في الصحراء لبناء نصب تذكاري غامض مصنوع من الطين.

هذه العوالم وضعت كلها بين يدي أورليان، وأخبرتنا زينة عريضة مديرة المتحف العربي للفن الحديث "متحف"، أن متاحف قطر سلمت أورليان 100 فيلم وفيديو آرت ليقترح في غضون شهر فكرته، وقد أنجز المشروع "بطريقة رائعة" من اختياره دقائق من كل فيلم تخبر قصة مركّزة وتاريخاً.

وبالطبع، حين نقف أمام عشرة عناوين للمعرض، سنكون أمام جغرافيا واسعة تصب في شاشات متجاورة أو مفردة، بحسب ما تمليه الإيقاعات السردية. إن كان الكولاج أحد الاستلهامات فإن اللعبة الهارمونية قادمة من جهة الموسيقى، وهذه المرة بصرياً وسمعياً. فكيف للصحراء أن تظهر في شاشتين متقابلتين، أو يظهر المنفى في ست شاشات مع أن لكل صحراء رمالها التي لا يشبه بعضها بعضاً ولكل منفى رغبته الحثيثة في أن يقول ذاته؟ والنساء من قارات مختلفة يناضلن ضد الإذعان والحرائق في شوارع مختلفة وغاضبة. هذه كلها تظهر دفعة واحدة كأن الناس في حل من المخرجين يصغي بعضهم إلى بعض من دون مقاطعة.

وبحسب المتوالية التي لها مطلع وختام، سنكون في النهاية في حجرة مخصصة لعمل الفنان المصري حسن خان وهو يستخدم مجموعة واسعة من الوسائط، بما في ذلك الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والأداء والتجهيز. هذه العرض الختامي يصور ببساطة رجلين يرقصان. إنه إعادة عرض لمشهد واجهه الفنان في أحد شوارع القاهرة. ففي إحدى أمسيات صيف عام 2006، كان في سيارة أجرة عندما رأى بطرف عينه رجلين يرقصان في شارع مزدحم. أما العرض فقد كان ممثلاً لتوجه فني يستخرج من بساطة المشهد مجال تأمل في مجرد رجلين أحدهما ضخم والثاني نحيل ويرقصان.

هذا المسعى السينمائي الفني البصري الشامل هو مقولة المعرض الرئيسية التي تكتسي على لسان زينة عريضة أهميتها من وجود الفيلم السينمائي ضمن شغل المتحف. وهي تلفت النظر إلى أن "جمهورنا ليس متعوداً على زيارة المتاحف، وهذه إسهامة في حقلي الفيلم والفيديو آرت لتشجيعهم أكثر". أما وقد كانت الأفلام والفيديو آرت قادمة من خارج المركزية الأوروبية فهذا عند عريضة تأكيد جديد على أن "اللعبة التي تفيد بأن العالم يدور حول الغرب يجب أن تتغير".

يستمر معرض "أطيافنا أطيافكم" خلال مهرجان البندقية السينمائي الدولي، الذي سيفتتح يوم 28 أغسطس/آب المقبل، علماً أن برنامج الأفلام السينمائية إلى جانب المعرض يستمر عرضها حتى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في الطابق الثالث من قصر كافالي فرانكيتي. والمعرض إحدى مبادرات متاحف قطر العديدة التي تتزامن مع بينالي البندقية، ومنها المشاركة في معرض ماركو بولو الضخم بقطعتين من متحف الفن الإسلامي، وكذلك إعارة أعمال من مجموعة "متحف" لفنانين بينهم المغربي محمد المليحي، والعراقي رافع الناصري، ولورنا سليم، وسامية حلبي، وسلوى روضة شقير.

المساهمون