بيئة شاميّة حجبت سورية وزيّفت دمشق

03 سبتمبر 2014
تسطيح الوعي وتزييف تاريخ دمشق(باب الحارة/العربي الجديد)
+ الخط -
لم يكن للمدن السورية، عدا العاصمة دمشق الشّام، حظٌّ يُذكَر في مضامين المسلسلات السورية طيلة أكثر من أربعة عقود. حلب وحماه، حمص والقامشلي والحسكة، دير الزور والرقة، أي حيث يعيش معظم سكان سورية، تبدو بلا صور على التلفزيون السوري، وتكاد مدن وبلدات السوريين لا تظهر على خريطة الدراما السورية.

ما من أحد يعلن حقيقة ميله الديني أو أزمته القومية أو رأيه السياسي، ولا حتى محض رأي فردي في أي شأن محليّ أو عام. مركزية السلطة، في دمشق وحدها، وجدت مقابلَها الكاتم والخانق في طغيان العاصمة الثقافي والدعائي واللغوي على سواها من مدنٍ سوريّة. قبل دخول شركات الإنتاج التلفزيونية، ومعظمها كان تابعاً للنظام السوري، أو هي عملت بما يرضي "ذوقه الجمالي"، إلى ساحة الدراما السورية في تسعينيات القرن الماضي، والفورة الكمية التي صاحبتها، كان التلفزيون السوري الرسمي الجهة الوحيدة التي سُمح لها بإنتاج المسلسلات، وعرض العربية منها، والتي كانت في معظمها مصرية. هكذا تعرفنا إلى القاهرة وإلى صعيد مصر وقراه النائية، حفظنا عن ظهر قلب أغاني عن الإسكندرية قبل أن تتحفنا "الثكنة" الدرامية السورية بمسلسلاتها التي كانت تُدار بعقلية رجل الأمن وضابط الجيش.

ترافق الإنتاج الضخم، مدعوماً من النظام، مع فقر في مضمون المسلسلات الاجتماعي، وجرى تزيين ضبابية الصورة العامة، التي روجت لها قنوات النظام الإعلامية، بقوة أدوات سينمائية، والتي جلبها المخرج هيثم حقي من السينما إلى التلفزيون، ثم لحقه نجدت أنزور في ما عرف بـ"الفانتازيا التاريخية"، فحلّت الصورة التي خرجت من الاستوديو الضيق إلى رحاب الشارع الذي بقي مغلقاً بإحكام ومراقبة أمنية شديدة.

شوارع دمشق في مسلسلاتها هي صيغة سبق أن مرت على أجهزة المخابرات، التي "نظفتها" بدورها من أي ملمح يشير إلى حياة الناس الحقيقية. مسلسلين كـ"حمام القيشاني" و"باب الحارة"، على سبيل المثال لا الحصر، قدما دمشق من خلال لغة خطابية، تقمصت مظهراً شعبوياً من خلال اللهجة لا غير، من دون أن تولي أي اهتمام إلى تاريخ المدينة السياسي، أو تستند على مادة معرفية موثقة. يتعارض التوثيق مع التلفيق، ولا تخدم الحقيقة مسلسلات همّها تسطيح الوعي، ولَوْك قصص تكررت عشرات المرات عن جلاء الاستعمار الفرنسي، أو وصم فترة الحكم العثماني من خلال عدّها السبب الاستراتيجي البعيد، ربما، كي يزداد عدد فقراء سورية ستة ملايين خلال سنوات حكم بشار الأسد.

غير أن استحواذ دمشق على نصيب الأسد من عديد المسلسلات السورية، حمل معنَيَيْن. الأول أنه حافظ على مركزية مدينة "بيضاء"، غطّت على وجوه الحياة وأنماط العيش في باقي المدن السورية، وما يفضي إليه ذلك من إلغاء معنوي ورمزي لوجود معظم السوريين بشراً وأمكنة، حكايات وقضايا اجتماعية، مما ولّد مجهولية سورية – سورية داخلية، وكرّس محواً لأي تداول خارج بيئة دمشق، في وقتٍ كان فيه الطلبة والتلاميذ يحفظون جغرافيا الجزائر والسودان، ولم يزر معظمهم جزيرة أرواد مثلا،ً أو تعرّف إلى سكان القامشلي أو الرقة! والمعنى الثاني، ربما هو أخطر من المعنى الأول، أن دمشق نفسها لم تظهر في عشرات المسلسلات التي كتبت عنها ولها.

لقد جرى تنميط الأدوار، وتفريغ الموضوعات وفق فهم بعثي للمجتمع السوري، فدمشق المتعددة والعريقة، طبقاتٍ وثقافة، مدينة الأسرار والمخاوف، التي هي ذاتها عاصمة التنافس الشرس، والانقلابات العسكرية والتحولات الكبرى، ثم الحكم المميت للأسد الأب، حيث قسوة المعتقلات والسجون، كلُّها بقيت معتقلة في المغلفات الأمنية، وأدراج القضاة العسكريين الذين زجوا بآلاف المعارضين السياسيين في السجون، دونما أن يكون لهؤلاء سيرة أو حضور في أي مسلسل سوري!

حلّ التاريخ القديم، بصيغه المتعالية عن الحقائق، محل الحاضر الذي لم يجد صورة تعكسه، ولا فهماً يحاول أن يرصد تغيراته الكبيرة، خصوصاً خلال أعوام (2000 -2010) مع فضيحة توريث بشار الأسد الحكم السلالي. تحول أثرياء دمشق الجدد، الجيل الثالث للبعث بعد نفاد وظيفته التعبوية، وحلول اقتصاد الدولة الخاص بالعائلة الحاكمة، إلى منتجين للفنون، وداعمين لفنانين ثبت لاحقاً أنهم جزء من بطانة الحكم الأمني. فـ"قلعة الصمود" حجبت المدينة الخائفة، وكتمت أنفاس سكانها الذين ذاقوا مرارة أبشع نظام قمعي، فيما لم تكن أناشيد العزة والفخر، مسلسلاتٍ دعائية، سوى قناع على واقع بائس.
المساهمون