الحزن وجدرانه

11 يناير 2016
(Getty)
+ الخط -
وبلا نافذةٍ، أرى البحر حيثما نظرتُ في أرجاءِ صندوقي الحجري هذا، هنا بحرٌ من أسماءٍ قبلي، وبحرٌ لأسماءٍ بعدي، بحرٌ من الذكريات يجن فجأة، كالموج يعلو ويهبط، كنبض قلبي كلما خَلدتُ للنوم بعيداً عن الغرف التي مرت بي، ومررتُ بها.

النوم ، كم كنتُ أنام بلا أرقٍ قبل هذه العزلة ،كم كنت أنام بلا قيد ،عبرتُ الحدود، قبل هذا عبرتُ ألف حزن وبعده ألف أعيشُ وأزيد، هُنا، في هذه الأسوار الحجرية، عرفتُ أي العزلة أعيش، مفارقاً ظلي وذكرياتي تكسو الروح ظلال، تملكك الوحدة ولا تملكها، حين تأذن لها أبواب السجن بقض مضجعك أو أحكام القيد، لا شيء يدفع الحجارة لرحمة قلبك الصدئ، لن تتحرك في لياليك المجنونة، لا شيء يعنيها من كل هذا الدمع الذي نكتم، والآهات التي نطلق، كل الغرف تراقب احتراقك بصمت، تحتوي ظل احتراقك، تحتضنه، تحضه على الصمت، الهرب، لا لشيء، هي عادة الأحجار فقط.

قبل سنوات، قبل حزن كامل، كان لي غرفة في قريتي، حيث ما زال التراب يكسو الناس أكثر من القبح هنا، لطالما صافحت رجلا بمنزلين بين عينيه وأسرتين وأكثر، يسيرون في الشوارع بكامل همومهم، غرف تكتم الفقر والحزن واللين، تخرجه سمرة الريف الذي مازال يقاوم كل شيء بالتراب والطين، غرفتي كانت تطل على الحوش وأشجاره العالية، لطالما انتابني الخوف من الباب كلما استحال فارساً، شاهقاً، من عصور المعدن بكامل عتاده، يصنع الريح وصوتها البارد، يخرج البرق والرعد، حر الصيف، برد شتاءات لا تنتهي، حين يرتعش القلب في الليل، ثم ما يلبث أن يعود باب مودة، تكسو ملامحه جودة القمر ونسيم الصيف، كل شيء يخرج من درفتيه كأنه قصة في كتاب عن العمالقة ما إن يأذن لها حتى تنقض عليك وتأكل قلبك، قلبك الذي أكلته الوحدة قبلاً، ذلك الباب لا يوصد، لا لشيء هي عادة المعادن ومخاوفك.

الكتب التي نرتبها على رفوف والتي تكسوها الأتربة، أقراصنا المدمجة المتناثرة هنا وهناك، صور ملهمينا، اقتباساتنا التي تملأ الجدران، أمور اعتيادية لإطلاق الحزن، للتعبير عما نرغب، كل هذه الأمور لا تصنع في الحجر شيئاً، كلمات الدنيا كلها لا تعنيه، تزيده قساوةً، بعد عشر سنوات مرت على أول مفتاح لغرفة، لزنزانة أفكار، ما زلت أحتفظ بالمفتاح، لا لشيء إنما لكي أقنع نفسي برفاهية المعتقل الذي كنته، رفاهية الروح امتلاك السجن وسبيل خروجه، تصبح الروح بعد خمسة مفاتيح، لخمس مدن، غرفة مغلقة والانتحار مفتاحها الوحيد للنجاة .

لا جودة في الترحال، وتغيير الزنزانة لا يجعلك حراً، الجودة تكمن في وجوه من يشاركونك سجنك الكبير هذا، الطرقات تألفك أكثر، تألف راحة تبغك، مقاس حذائك، زفراتك في البرد، كم لفافة تحرق وتُحرقك جيئة وذهاباً، لا جودة في الترحال حيث الجدران ستصبح أقرب إليك، تطبق عليك، لوحات الإعلان تراقبك، أبواب البنايات، كلاب الحراسة، نواطير البيوت، كل شيء يتراكم ليصبح باباً حديدياً يأسر القلب، لا تستطيع زحزحته.

الزنزانة صديقك الوحيد بعد ألف غربة وألف حزن، الحجارة قاتلك الذي لا يبتر إلا الأحلام، كلما صحوت، ولم تفقد أطرافك، لم تخسر سوى الأمان وبعض الدفء، ما زلت صندوق العظام الذي يأسر القلب، قد يطبق عليه يوماً، إذا انهار الحجر وعانقك خوف قذيفة أو برميل موت، ستراه أنت الذي أضعته وأضاعك، لتخرج الروح حجارة وأحزاناً، ركاماً تشتهيه ويشتهيك.


اقرأ أيضاً: تربح الذكريات
المساهمون