العتابا.. تراث الشعوب وخزانة أفكارها

04 يوليو 2015
العتابا ترافق السهرات القروية (Getty)
+ الخط -
أساطير متعددة تنسج، وروايات كثيرة تُحكى، كلها تدور في فلك البحث عن قصة فن العتابا، بدءاً من أصل التسمية، وانتهاء بقصص نشأتها؛ فلكل منطقة مخزون شعبي يروي قصة أقرب إلى الخيال، فمن تلك الحكايات الأسطورية أنها اسم لزوجة هجرت زوجها، أو فتاة اسمها عتاب تعلق بحبها شاعر، وراح يتغنى باسمها مبتدئاً به في شعره، وثمة رواية تحكي أن فلاحاً كردياً كانت لديه زوجة فائقة الجمال، اسمها عتابا، ويعيشان في جبل الأكراد، وصدف أن رآها إقطاعي فتزوجها عنوة، فطوّف في البلاد حتى استقر في شمال لبنان، حيث تفتحت قريحته على الشعر، فأنشد: 

عتابا بين برمي وبين لفتي
عتابا ليش لغير ولفتي
أنا ما روح للقاضي ولا إفتي
عتابا بالثلاث مطلقا

ولكن الأقرب إلى الحقيقة أنها مشتقة من العتب، إذ إن المواضيع التي يتناولها هذا الفن غالباً ما يكون محورها العتاب.
من المعتقد أن أول من نظم العتابا القبائل العربية التي سكنت أرض العراق، ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، أو أنها نشأت أواخر العهد العباسي، بعدما فسد اللسان العربي وكثر اللحن، وقد غناها البدو الرحل مصحوبة بصوت الربابة الحزين الذي يثير الأشجان.
يبدأ بيت العتابا أحياناً بـ "أوف" من أجل لفت انتباه السامع؛ وأوف هي من أف اسم فعل أمر بمعنى أتضجر، وكلما كان الألم واللوعة شديدَين أطال المعتِّب في مد الواو. لا يحتاج البيت إلى مطلع، ويتألف من أربعة أشطر، تنتهي الثلاثة الأولى بالكلمة نفسها التي تعتمد على الجناس (اتفاق اللفظ واختلاف المعنى) والتورية (إيراد معنى قريب غير مراد، وآخر بعيد هو المراد)، والشطر الرابع ينتهي بباء ساكنة مسبوقة بألف أو حرف مفتوح، ربما استخدام الباء نابع من كونه رمزاً صوفياً؛ لأنه يرمز إلى الإنسان الكامل، وللبيت وحدة معنوية مترابطة، وهذا النوع منتشر في الساحل السوري، وفي الفترات الأخيرة أصبح الاستغناء عن حرف الباء سائداً.
يتلون أحياناً بيت العتابا بالبديع والبيان، ويحتاج إلى صوت جبلي وحنجرة رخيمة تصدح بالمفردات؛ مصبغة عليها اللفظ الصحيح، والقدرة على تلوين الصوت ونطق مخارج الحروف بشكل جيد، والوقوف أثناء إنشاد البيت والعودة إليه بالقوة ذاتها، وإعطاء اللفظة حقها في اللحن، حسب الموقع الذي وجدت فيه، بينما يكون الرجل ينشد بيته.
لا تنظم العتابا بشكل عشوائي، وإنما لها قواعد عامة تسير وفقها مثل الشعر العربي، فهي تنظم على البحر الوافر، مثل نماذج غنائية شعبية أخرى كالسكابا، لكنها ليست بالتزمت ذاته لأن الكلام المحكي لا يخضع لهذه الضوابط بشكل دقيق، وإن كان ذلك يحدث بلا إحساس منا؛ لأن اللغة لا تنسلخ عن جذورها فهي ترتوي من البئر نفسها، فالكثير من الباحثين والدارسين رأى أنها درجة ثانية لأنها لا تنظم باللغة العربية الفصحى، لكنها تحمل تراكيب شعرية عميقة وصوراً معبرة تنقل الواقع المعاش والحالة الفنية؛ راسمة صورة أدبية للمعاني والأحاسيس والأخيلة التي يسعى المُعتِّب إلى إيصالها، معتمداً الإثارة والتشويق والتأمل العميق، فكما كان الشعر العربي خزانة العرب قديماً وسجلهم الذي حفظ تراثهم، حملت العتابا اللواء ورسمت ملامح مجتمعات متعددة.
ربما اتخذت العتابا في البداية من أجل تسلية النفس والترويح عنها، لكن مواضيعها الآن باتت متنوعة، ومحاورها مختلفة، تعكس المزاج العام للناس وهمومهم الحياتية، وأصبحت تتطرق إلى مواضيع سياسية ودينية وغزلية، لكن الأثر البارز هو للبيئة والطبيعة الجغرافية، فمثلاً في الساحل السوري تتركز الأبيات حول الجبل أو البحر، وما لهما من انعكاسات نفسية ووجدانية في نفوس صداحي العتابا الذين تنطق حناجرهم بما يعبر عن مكنوناتهم؛ فالبيت التالي يعطي صورة الفتاة الريفية التي تصنع خبزها على تنور قديم، يتغزل بها المعتب لأنه مشهد مألوف، ويمسه روحياً:

متى يا بنت ع المتلي ترقين
وأمانة بالعشق شوية ترقين
وعلى التنور يوم شفتك ترقين
حملت للتنور ع كتافي حطب

اقرأ أيضاً: أغنية عراقية

قديماً كان الشاعر الفحل يرتجل قصيدته بين يدي ممدوحه أو لأي غرض آخر، وصاحب العتابا الفحل هو الذي يستطيع أن يرتجل أشعاراً حول موضوع محدد يسأله عنه طرف آخر، يكون محاوره ومبارزه في سباق بينهما قائم على المحاورة أو الجدل، وكل منهما يتفاخر على خصمه بأبيات تبرز مقدراته وتفوقه، ويريد الأسبقية وانتقاء موضوع يُعجز به الآخر، وقد يتبارزان بقافية واحدة وتسمى العتابا المقيدة أو بلا تحديدها تسمى العتابا الحرة، وقد تكون الموضوعات معتمدة على السلب والإيجاب؛ أي الشيء وضده كالسهل والجبل، والسجن والحرية، والسمراء والشقراء، والفقر والغنى، أو تترك للمتحاورين حرية الاختيار، وندماء العتابا لهم دور في إذكائها وتحفيز المعتب كي يثيروا حماسته ليجود بأفضل أبياته.
تتعدد أنواع العتابا في سورية فمنها: الشرقية في الجزيرة والفرات والبادية العراقية، والجبورية في منطقة الخابور وبعض مناطق الجزيرة ترد فيها ألفاظ السقي والري، والفاضلية نسبة إلى عبد الله الفاضل من بدو الحسنة، والسلمونية نسبة إلى مدينة سلمية. ومن أنواع العتابا العراقية السويحلي.
العتابا لم تدون، انتقلت شفاهاً وتواتراً كالشعر العربي، ولا يوجد جمع ولا توثيق لها؛ لذلك تبقى مهددة دائماً تواجه خطر الاندثار، فليست لها أصول محددة، ولا يعرف قائلها، لأنها تنظم لحظياً من قبل أشخاص مجهولين، ففي منطقة سهل الغاب في سورية يقال إن بعضهم نسج آلاف الأبيات من ارتجاله.
دلالات
المساهمون