حكواتي: عن سبت حيفاوي

20 سبتمبر 2014
حيفا في بدايات القرن العشرين / Getty
+ الخط -
حيفا مدينة مختلطة. قبل عام 48 كان يعيش فيها 75 ألف إسرائيلي و 75 ألف فلسطيني في حارات منفصلة. بعد حرب 48 اضطر أغلب أهلها إلى مغادرتها، ليصبحوا لاجئين في أنحاء الوطن العربي. اليوم يعيش في حيفا 35 ألف فلسطيني (أغلبهم ليسوا من أهل حيفا الأصليين) و350 ألف إسرائيلي في أحياء منفصلة، وبدون تعايش حقيقي، عكس ما تبثه وسائل الإعلام التابعة للبلدية. يوم السبت هو يوم الإجازة الرسمي للإسرائيليين، وفيه تغلق أغلب متاجرهم، لذلك يأتون إلى التسوّق في وادي النسانس، وهو سوقنا المحلية لشراء مأكولاتنا الفلسطينية، وهو أيضاً يوم التسوّق عندي وعند الكثيرين من أهل حيفا الفلسطينيين.

بدأتُ يومي بزيارة مخبز جديد، حين رأيت لائحة منتوجاته مكتوبة بالعبرية، انزعجت جداً (صاحب المحل فلسطيني) يتوقّع زيارة الإسرائيليين للسوق، لكنّ ما أثار حفيظتي وضرب "فيوزات" مخّي هو تسميته لكعك القدس بالسمسم "بيغال يروشالمي".
لم أناقشه لأني أعرف أن لا جدوى، ولم أشتر منه شيئاً، مع أنّ أسعاره رخيصة جداً. قصدت بائع الخضار، وبسهولة ركنت سيارتي، رأيت رجال شرطة يجرّون شاباً صغيراً أعرفه كمساعد لبائع الخضار، كان مكبّلاً وأفراد الشرطة يركلونه صائحين "أنت مقيم غير قانوني، أنت مخرّب"، وهو يحاول أن يقول لهم بعبرية مكسّرة "أريد أن أشتغل فقط". وقفت مصدومة وفقدت القدرة على الكلام. سمعت التعليقات التي رافقت المشهد.
قال أحد كبار السن "يا عمّي السوس منا وفينا، أكيد حدا خبّر الشرطة عن وجود هذا الشاب الضفاوي بدون تصريح هنا"، وقال شاب رياضي بلهجة واثقة "هاي بس غيرة وحسد"... (للعلم: الضفّاوي هو من يسكن الضفّة الشرقية للأردن، وجميعهم محرومون من دخول باقي أنحاء فلسطين إلا بتصريح من قوات الاحتلال) اعتقلوا الشاب وصاحب الدكان. قصدت المحل الثاني، حيث يعمل قريب الشاب، الذي كان مشغولاً بما حدث ويحاول جاهداً الكلام مع أخيه بالموبايل: "إذا سألوك عن الضفاوي أنكر أنك تعرفه". أردت مواساة لكنّ الشاب قاطعني: "سنحل الموضوع بمعرفتنا".
خرجت من المحل من دون أن أشتري خضروات الأسبوع القادم، كنت مستاءة جداً من وضعنا، لم أنتبه للرجل الذي اقترب مني مرحّباً إلا عندما قال: "شو يا دنيس نسيتيني؟"... كان من أصدقاء الطفولة، تعلّمنا معاً منذ الروضة وحتى نهاية الثانوية، وكانت لنا علاقة رومانسية بريئة جداً، ولكني لم أعرفه في البداية لأني لم أره منذ أن أنهينا الدراسة. تذكّرت اسمه من ومضة عينيه التي لم تتغير، فرحت برؤيته لكن ما حصل مع الشاب "الضفاوي" سابقاً عكّر صفو اللقاء.

ودّعته مسرعة على وعد أن نعود لنلتقي مع كل طلاب صفّنا. حين وصلت إلى نهاية شارع مار يوحنا، الذي يمرّ على طوال واد النسانس، وتحديداً مكان فرن أبو محمد العتيق (قرب بيت الأديب الجميل أحمد دحبور الذي أجبر على ترك حيفا مع عائلته عام 48 مع 70 ألف فلسطيني حيفاوي) يوجد الآن مخبز بيتي تديره ثلاث نساء من ثلاثة أجيال، أرتاده السبت لأتزوّد بخبز الأسبوع لأني مش معدّلة (لست بربة بيت قديرة) بس بحبّ الخبز البيتي، الذي يذكّرني بخبزات أمي.
وقف شاب أسمر يلبس تي شيرت أسود كُتب عليه "أنا لا أنساكِ فلسطين" وقال بكلّ فخر للصبية الصغيرة التي تبيع الخبز: "أنا كنت امبارح بأم الفحم في مظاهرة نصرة الأقصى". فردّت عليه الصبية: "وليش ما حكيت لي كنت جيت معك". احمرّ وجهه وقال: "ما كنت اعرف انك بتحبي تشاركي بهيك أمور وبدي اقولك كمان شي، اشتريت علم فلسطين صغير ووضعته على طاولتي". ردّت عليه فوراً: "أنا من زمان عندي علم فلسطين ومش صغير".
لم أسمع باقي المحادثة الرومانسية بينهما؛ لأني كنت مجبورة أن أغادر وأرجع إلى بيتي لتكملة تعزيلة يوم السبت... فيوم السبت طويل كما حكيت لكم وأكثر.
المساهمون