تلميذ أبكى معلمته

24 نوفمبر 2014
مرّت 4 سنوات مذ تخلّيت عن مهنة التعليم (Getty)
+ الخط -
لا تزال المهنة الأصعب التي مارستها في حياتي. بيْد أنّها حفرت في ذهني قصصاً لأطفال، تبعث في كياني لغاية اللحظة، لحظات من الفرح والألم، بمجرّد أن تمرّ ذكرياتها في مخيّلتي.

هي أولى تجاربي العملية في الحياة، أمضيت فيها أكثر من عشرة أعوام. تململت أحياناً، اشتكيت ولطالما توعّدت بتركها، ليرد عليّ من شابوا فيها، وباستخفاف: "لن تذهبي إلى مكان آخر، حين تدخلين هذا العالم يصعب التخلي عنه". زادني كلامهم تصميماً على الرّحيل، خشيت أن تطويني الأيام بوحشتها في مجال لم أعد قادرة على الإبداع فيه، رائحة النفط والغاز والرطوبة والشمس الحارقة يتسللان إلى جسدي كل صباح وتصيبني بالكسل، هل علي أن أترك المهنة كلها أم معها هذا البلد؟

وها أنا اليوم أعمل في مجال آخر، أشتاق إلى أشخاصها أو ذكرياتها، لكنّي وبصراحة لا أحبّذ الرجوع إليها. فقد أرهقتني، وأنا في كامل قوتي واندفاعي، على الرغم من كون مهنة التعليم مهنة مليئة بالتحديّات التي تتفوّق أحياناً على اللحظات الجميلة.

مرّت أربع سنوات مذ تخلّيت عن تلك المهنة المليئة بالتحدّيات. إنّها ليست مجرّد تعليم مادّة أو فرض النظام داخل الصف، بل أكثر من ذلك بكثير. إنّها القدرة على فهم شخصيات مختلفة لمراحل عمريّة متنوعة، واكتناه المقصود من تصرّفاتهم.

بين الفينة والفينة يزورني طيفها في شرود اليقظة تارة وفي المنام أحياناً أخرى، ويغمرني الإحساس بالذنب، كلّما عادت بي الذاكرة إلى زيد، طالبي في الصف السادس. تبقى أسماء بعض الطُلاب محفورة في أذهاننا حتى بعد مرور سنواتٍ عديدة.

كان زيد هادئاً، قليل الكلام، لم يلفت انتباهي مع بداية العام الدراسي، كونه يدرس اللغة الفرنسية في صفي مرّتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. وبما أنّي أرى عشرات الوجوه في اليوم الواحد، لم تكن ترسخ في ذاكرتي سوى تلك الوجوه المشاغبة أو الفائقة الذكاء، خصوصاً في الأسابيع الأولى من السنة الدراسية، حتّى يتسنى لي مع الوقت التعرّف إلى شخصيّات تلاميذي الأكثر هدوءاً والتزاماً بالقوانين.

أبدى زيد اهتماماً باللغة الفرنسية، وشجّعته على ذلك ومدحته، كما تفعل أي معلّمة بغية تحفيز طلّابها. بدأ زيد يقوم بأعمال إضافية مع الواجبات المنزلية، إذ جاءني ذات يوم برسم ما عدت أذكره مع عبارة فرنسية تقول: "أحب اللغة الفرنسية وأحب مدرستي". ما كان منّي إلّا أن أثنيت على عمله، وفوجئت به يضمّني، في بلد عربي، حيث يتلقن الأطفال منذ نعومة أظافرهم الابتعاد عن الجنس الآخر. وزيد لم يتجاوز آنذاك الإثني عشرة عاماً، أي أنّه كان يصغر ابني بسنوات، لكنه بعكس الآخرين، عبّر عمّا بداخله من خلال الغمرة.

لم تلفتني رغبته في التعبير عن حاجته لي، على الرغم من وضوحها، وذلك من خلال محاولته الخجولة في إيجاد كلمات مبعثرة، نطق بها متلعثماً، لكسب مزيد من الوقت في المحادثة. كنت في غاية الانشغال وقطعت عليه الكلام، شاكرة جهده، ورافقته إلى خارج الصف، كي أتفرّغ لما ينتظرني من تحضير لباقي اليوم التعليميّ الطويل.

لم أفكّر بتصرّف زيد على الإطلاق ولم أعره أي اهتمام، كان بالنسبة لي كما العديد من الطلّاب الآخرين. طُلّابٌ يعشقون اللغة الفرنسية في العام الأوّل، قد يدوم اهتمامهم باللغة والمفردات، وقد تنطفئ شعلة الحبّ تلك خلال السنة الثانية.

عاد زيد في اليوم التالي، طرق باب صفي في وقت الفرصة، أومأت إليه بإشارة من يدي أن يدخل. كان محيّاه مبتسماً مع بقع حمراء رسمها الخجل على وجنتيه. نظرت إليه، متسائلة بخبث في داخلي، ماذا يريد؟
مدّ يده صوبي وقدّم لي رسم قلب، كُتب عليه بالفرنسية: "Je t’aime madame" (أحبُّك يا آنسة).

لم أُجد يومها قراءة أفكار زيد، وشكرته من دون اهتمام مماثل للمرّة الأولى. شعرت بنيّته في الاقتراب منّي وضمّي مجدّداً. لكنّي طلبت منه مغادرة الصف، وتحجّجت بكثرة العمل والانشغال. تفاديتُ مواجهة غمرة زيد غير المفهومة مجدداً.

لم يرق لي تصرّف الصغير الذي بات يأتيني يومياً في الفرصة، ممسكاً تلك الورقة، التي شخبط على بياضها رسماً وعبارة مترجمة من غوغل إلى الفرنسية، محاولاً ولو بطريقةٍ غير مباشرة الاقتراب للحصول على غمرة. استمرّ الأمر على ذلك المنوال لأسابيع، على الرّغم من انزعاجي الواضح منه، حتّى فاض الكيل أخيراً، وقلت له، وبلؤم: " بات الأمر مملاً، أنت لا تقوم بأي مجهود، جلّ ما تفعله، ترجمة عبارة عن غوغل مع تلك الشخابيط. توقّف عن ذلك ولا تدخل إلى صفّي سوى في حصّة اللغة، مع باقي الزملاء". دمعت عينا زيد، وارتبك، ورمقني بنظرة مؤلمة لن أنساها ما حييت، أراد أن يختفي، بعد أن شلّ كلامي لسانه، وخرج ولم يقم بأمر مماثل بعد ذلك بتاتاً.

لفت حزن زيد في تلك اللحظة انتباهي، وراقبته خلال الحصّة التالية، حتّى اعتصر الألم قلبي، ورحت أتساءل كأي امرأة من بيئتي تختلط عليها الأمور، "هل حاول ذلك الصبي الصغير التقرّب منّي"؟ أثار السؤال الاشمئزاز في نفسي، فبرّرت لؤمي تجاهه، بتلك الموجات الفكرية السوداء التي اجتاحتني.

لم أرض بما ابتكره خيالي الشرقي من حجج، وأردت أن أعرف المزيد عن زيد، دخلت إلى غرفة المشرفة الاجتماعية، وحكيت لها قصّتي مع ذلك الصغير، أخبرتها أنّ تصرّفاته لم تعد مقبولة، جلّ ما يريده هو ضمّي. قلت لها، أعلم أنّه مجرد طفل، غير أنّه ضايقني حتّى وضعت له حداً، ولكني من حيث لا أدري أشعر بالذنب.

ردّت المشرفة بهدوء: "ربّما يبحث عن حنان أمّه لديك، فهي تعاني من مرض السرطان وسافرت للعلاج، ويبدو أنّ زيد يحاول تعويض غيابها بك".

خجلتْ ذاتي من ذاتي، وعجزت عن مواجهة الأمر، كما أردت أن أكفّر عن ذنبي من دون أن يعلم زيد أنّني علمت بما يعتريه من ألم وفقدان لحنان الأم.

ابتعد زيد عنّي ولم يعد لما كان عليه، علّمني ذلك الصبي الصغير ألّا أتسرّع في إصدار الأحكام. علّمني كيف يكون الحب عطاء، وعلمني أن القلوب في الأجساد الصغيرة تتألم أيضاً.
المساهمون