صحافيون سوريون يروون الرعب وتجاربهم

03 نوفمبر 2016
تعدّ سورية البلد الأخطر بالنسبة للصحافيين (سيدات سونا/Getty)
+ الخط -
يعاني الصحافيون في سورية من خطر التعرض للخطف أو الاعتقال أو القتل أثناء قيامهم بواجبهم. إذ أفادت "لجنة حماية الصحافيين" بأن سورية تعد البلد الأخطر بالنسبة للصحافيين. ورغم أن عدد القتلى من الصحافيين انخفض منذ بدء الثورة السورية في عام 2011، فذلك ليس بسبب توقف اعتداءات النظام، بل لأنه لم يبق الكثير منهم هناك ليُقتلوا.

في هذا الإطار، نشرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، اليوم الخميس، تقريراً موسعاً يعرض تجارب خمسة صحافيين سوريين، تحدثوا من تركيا بكلماتهم الخاصة عن المخاطر التي تعرضوا لها أثناء تغطية المأساة السورية. وشارك في التقرير: سامر الأحمد، جواد أبي المنى، أحمد حاج حمدو، صادق عبدالرحمن، ورائد رزّوق.


وهنا قصصهم: 

كتب المراسل في راديو "نسائم سورية"، سامر الأحمد:


"كلما سمعت باسم حلب، أتذكر صديقي المحامي، إبراهيم مالكي. في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كنا معتقلين معاً في زنزانة مزدحمة، وننام جنباً إلى جنب. كان طول الزنزانة 3 أمتار، وعرضها 6 أمتار، لكنها تضم أكثر من 20 سجيناً.

اعتقلنا النظام السوري. اتُّهمت بإرسال أخبار للمعارضة السورية، بينما اعتقل إبراهيم لأنه ناشط سياسي وحقوقي. بعد 20 يوماً من العيش سوياً، ومشاركة حصص التعذيب، تعززت

صداقتنا، لكن لم يمض وقت طويل قبل أن نُنقل إلى سجنين مختلفين".

"استكمل النظام عملية تعذيبه لي واتهامي بأنني إرهابي، بينما كان إبراهيم يعيش كابوسه الأسوأ في زنزانة صغيرة بالعاصمة دمشق، وأخبرني لاحقاً أنه شاهد شباباً صغاراً يموتون، وترمى جثثهم كالحيوانات.

بعد شهر، أطلق سراحي بعد أن دفعت رشوة لمسؤول السجن. بعد أسبوع، علمت أيضاً أنه أطلق سراح إبراهيم. لم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ النظام بمضايقتي مجدداً، فتوجهت إلى تركيا، وانتقل إبراهيم إلى سويسرا بعد إغلاق النظام لمكتب المحاماة الخاص به.

نتحدث أسبوعياً عبر "سكايب"، ويخبرني دائماً أن ما يحدث في حلب ينفطر له قلبه، مدينته الحبيبة التي يحاول رئيس النظام السوري، بشار الأسد، تدميرها".  



من جهته، كتب رئيس تحرير صحيفة "سوريتنا"، جواد أبي المنى:


"كل ما أتذكره عن اليوم الذي أطلق سراحي فيه هو وقوفي أمام مدخل المستشفى العسكري في دمشق، عارياً إلا من بطانية. بعد 144 يوماً من التعذيب، كنت غير قادر على الحراك تقريباً. نُقلت بين مراكز عدة للاستخبارات السورية، وأمضيت الشهرين الأخيرين في مركز معروف بـ(المسلخ البشري).

في يوم من الأيام، قرروا أنني لا أشكل تهديداً على الأمن الوطني، ونقلوني إلى مستشفى، حيث

أطلق الأطباء سراحي. خرجت مرهقاً ومنفعلاً جداً، ثم لاحظت أن الجميع يحدقون بي. كان مظهري مثيراً للشفقة، ورائحتي كريهة، لكن الناس كانوا يبتسمون في وجهي كتحية خاصة. كانوا يعرفون أن هذه فرصتي الثانية، فرصتي الثانية لأولد من جديد.

احتاجت عيناي وقتاً للتأقلم من جديد مع ضوء الشمس، وامتلأت أذناي بالضجيج، لكن رائحة الشارع كانت تشبه رائحة الجنة. أول ما رأيته كان رجلاً يبيع المياه. أخذت القنينة الأولى وشربتها خلال ثوانٍ، ثم الثانية، والثالثة، فالرابعة. كانت المرة الأولى التي أشرب فيها مياه نظيفة منذ أشهر. رفض الرجل أخذ ثمنها. كان واضحاً أنه معتاد على رؤية أشخاص مثلي.

سألني البائع: أين تسكن؟ أخبرته بأنني من حي ركن الدين في دمشق، فوجد سائقاً ليوصلني إلى المنزل، ورفض السائق أن يأخذ مني المال. كان ابنه معتقلاً أيضاً".

 

أما الصحافي في منظمة "أريج"، أحمد حاج حمدو فكتب: 


"قررت أن أصبح صحافياً عندما بدأت الحرب. كان قراراً متسرعاً، وعلى الأرجح لم يكن القرار الأكثر حكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار استهداف النظام للصحافيين من الجانبين.

خلال أربع سنوات، كنت أذهب في رحلة طويلة إلى جامعتي لأكون صحافياً، بينما تتساقط

قذائف الهاون من حولي، لكنني كنت أتعلم. في إحدى المرات، أمضيت أياماً مختبئاً بعد أن هُددت بسبب تحقيق نشرته، نمت مساءً في المستشفى، لأستيقظ على صراخ المصابين.

 أتذكر تحديداً واحداً من الانفجارات الكبيرة التي قمت بتغطيتها في إحدى ضواحي دمشق: هرعنا محملين بالكاميرات لتغطية الأمر بأسرع ما يمكن. كان الدخان الأسود يعمي الأبصار، ولم نستطع رؤية أي شيء، لكنني شعرت فجأة أنني دست على شيء لزج.

تجمدت بمكاني، عندما لاحظت أنني دست على جثة. في تلك اللحظة، قررت أنني سأتوقف عن تغطية الانفجارات، وبدأت بالتركيز على القصص والتحقيقات الإنسانية.

انضممت إلى منظمة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج)، وربحت جائزة عن إحدى قصصي الصحافية حول العصابات التي كانت تزوّر وثائق ومستندات للاستيلاء على بيوت عشرات آلاف الأشخاص الذين تركوا بيوتهم هرباً من الحرب.

في العام الماضي، تم استدعائي للتجنيد الإجباري، فقررت الهرب إلى تركيا. أحاول الآن استجماع ذاكرتي، وإنهاء دراستي في المنفى. أمر محبط أن تكتب عن سورية وأنت خارجها، لكن لا تزال لديّ بعض المصادر داخل سورية التي تساعدني في الوصول إلى المعلومات، وأفضّل ذلك على أن أُلقى على الخطوط الأمامية للموت".

وكتب المحرر والكاتب في صحيفة "الجمهورية" باسمه المستعار، صادق عبدالرحمن:

"أمضيت السنوات الثلاث الأولى من الثورة السورية أتنقل بين المناطق التي تخضع للنظام السوري. شهدت على أحزان الناس، خوفهم، وموت أحبائهم، لكن إقناعهم بالتكلم كان الأمر الأكثر صعوبة.

يخاف الجميع من التحدث، وحتى لو وافقوا، فإنهم يتحدثون فقط عما يفترض بهم أن يتكلموا

عنه، ليس ما يريدون هم أن يتكلموا عنه، وحتى لو أكدت لهم أن أسماءهم وهوياتهم لن تذكر، تستطيع تحسس الخوف والارتباك في كلماتهم، لكن مع الوقت بدأ بعض الأشخاص بالوثوق بي.

كنت استعمل اسماً مستعاراً لحماية هويتي، فكان الناس ينظرون إليّ كشخص مجهول يتحدث إلى شاهد مجهول، وعلى الرغم من أن هذه الوثائق لا تزال مهمة حتى اليوم، لكنها ليست الطريقة المثالية لممارسة الصحافة.

في إحدى المرات كنت أريد توثيق تجربة أحد أصدقائي الذي أجبر على القتال في صفوف قوات النظام، لم يكن مؤيداً للنظام، لكنه في الوقت نفسه لم يكن من الثوار، لم يكن يريد أن يقاتل أي أحد.

حاولنا توثيق قصته خلال إحدى عطله، لكن الأمر كان مستحيلاً. إذ إن عدم ذكر معلومات شخصية رئيسية جعل القصة بلا أي معنى، لكن أي تلميح لهويتينا قد يضعنا في خطر.

بعد ثلاث سنوات، التقينا في إسطنبول، حيث ضحكنا، وبكينا، وتحدثنا لساعات. كان يجهز نفسه للذهاب إلى أوروبا، بعد أن نجح في الهرب من سورية، لكن حتى في المنفى، استحالت كتابة قصته، لأنها يمكن أن تورط أصدقاءه وعائلته الذين ساعدوه في الهرب إلى تركيا، ولا يزالون يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري؛ نظام يمنع السوريين من رواية قصصهم حتى من منفاهم".



أما رئيس تحرير مجلة "زيتون"، رائد رزّوق فكتب:


"في أحد أيام سبتمبر/أيلول الماضي، وبعد قصف عنيف على مدينتي إدلب، في الشمال السوري، قررت أنه حان الوقت لأسافر مع عائلتي، زوجتي وطفلين، إلى تركيا بحثاً عن الأمان.

وصلنا إلى الحدود عند الساعة الثامنة صباحاً مع أكثر من 50 عائلة أخرى، وانتظرنا تحت

أشجار الزيتون التي تبعد حوالي 500 متر عن الحدود. لم تكن بحوزتنا جوازات سفر، لذا كان مستحيلاً أن ندخل إلى تركيا بطريقة شرعية. كان حلّنا الوحيد أن نعبر بطريقة غير شرعية، والذي اتضحت لاحقاً خطورته.

فشلنا في محاولتنا الأولى لعبور الحدود، وكاد بعضنا أن يتعرض للقتل بسبب رصاص الجنود الأتراك على الحدود. أصيب أحد الرجال بطلق رصاص في قدمه، وبدأت النساء والأطفال بالصراخ والبكاء. مرّ اليوم. جاء المساء وكان الناس يشعرون بالبرد والتعب. أقنعت عائلتي بمحاولة العبور مرة أخرى، لكن الجنود الأتراك فتحوا علينا النار مجدداً.

غطيت زوجتي وأطفالي لحمايتهم من الرصاص، وتوسلت ابنتي التي تبلغ من العمر 8 سنوات إليّ "أعدني إلى منزلنا. لا أريد تركيا". هربنا إلى بلدة قريبة، حيث وجدنا مسجداً استطعنا الاحتماء فيه، وكان هناك أشخاص كثيرون مثلنا. عدنا عند الساعة الثالثة صباحاً، ووجدنا حفرة بعمق متر ونصف المتر لنزحف عبرها. وصلت مع زوجتي وطفلي (6 سنوات) وطفلتي (8 سنوات) إلى قرية تركية وشهدنا أول شروق آمن للشمس منذ ثلاث سنوات".



(العربي الجديد)

المساهمون