الشركات الناشئة.. وهم يعيشه شباب العالم

27 يناير 2017
+ الخط -



حوار مع صحيفة لومانيتيه

الفيلسوف إريك سادان هو أحد الملاحظين الأكثر نقدًا لتداعيات التكنولوجيا على مجتمعنا الذي يتحوّل إلى الرقمية.


لماذا كل هذا التمجيد للشركات الناشئة (الستارت - آب) وللشباب أصحاب المشاريع؟
هذا مردّه أسطورة الكراج؛ مردّه هؤلاء المهندسين الذين تحرّروا من كل شكل من أشكال السُلطة، والذين قرّروا المُخاطرة والتحلّي بالجرأة والانخراط في المغامرة التكنولوجيّة. أبرز شخصيتين هما ستيف جوبز وستيف وزنياك اللذين أسسا (آبل Apple) في السبعينيات. منذ عشر سنوات، أصبحت أسطورة الكراج هذه، هي أسطورة الشركة الناشئة. جرأة امتلاك مشروع أصبحت مُتاحة للجميع دون تمييز، هذا يؤدّي إلى أفق جديد للرأسمالية يسمح للجميع بالانخراط في الأمر، من صاحب المشروع الذي يمتلك فكرة إلى المُبرمج، إلى "الشريك المبدع" إلى المستقل. كُل شخص بإمكانه أن يصير مليارديرًا، كما يروّج ماكرون. هذه الأسطورة تداولتها تقريبًا كل الأطراف السياسيّة واحتفت بها، لأن الكل بوسعه الحديث عن الأمر. في هذا الصدد، الشركة الناشئة هي تجسيد للتوافق الليبرالي الاجتماعي في هذا الزمن. وهي تُمَجّد أيضًا بوصفها احتفاءً بالشباب، كما أنها تسمح بتنشيط للرأسمالية.

ولكن في معظم الأوقات، لا تتعلّق مسألة نمو الشركات الناشئة سوى بإيجاد سبل لجَمع معطيات وبيانات تتعلّق بكل حلقات حياتنا؛ عن طريق تطبيقات ومستشعرات يُراد تعميمها في كل مكان: المرايا والملابس والموازين، وذلك كله بغرض تحويل كل نواحي الحياة إلى نقود. المشكلة تكمُن في أن المجتمع يرحب بهذا النموذج، ظنًا منه أنه سيعالجنا من كل آفاتنا، دون إدراك لحقيقة تداعيات هذا الأمر. كيف يمكن أن يكون المجتمع مغيّبًا إلى هذا الحد؟


إذا كانت هناك أسطورة حول الشركات الناشئة، فما هي الحقيقة إذن؟
إذا نظرنا للأمر من زاوية أقرب، سنجد أن الشركات الناشئة لا تخلق فرص عمل عديدة؛ فنظام عدم الاستقرار هو السائد، و9 من 10 شركات ناشئة تفشل خلال سنتين، فالفريق الذي يعمل عادةً ما يكون صغير العدد وبالتالي يواجه ضغطًا في عدد ساعات العمل، وكوننا في نظام "كوول"، فذلك يسمح بأن يُطلَب من الجميع العمل حتى منتصف الليل، تتخلل ذلك راحة قصيرة للعب البينغ - بونغ. يتحدّث الناس في ما بينهم دون كلفة، ويقيمون معسكرات مكثّفة، إلى حد أنهم يستخدمون مصطلحات عسكريّة أثناء العمل.

يختلف أصحاب المشاريع هؤلاء عن سابقيهم: فهم لا يتحملون المسؤولية، لا يقترضون أموالًا، لا يبنون فريقًا، ولا حتى يُغامرون بأموالهم الشخصيّة: يعتمدون على إجراء مقابلة مع "مستثمرين ملائكة" business angels، ثم يغادرون في خمس دقائق وفي حوزتهم عشرات الآلاف من اليوروهات، الأمر الذي يؤدّي بطبيعة الحال إلى عدم تحمّل المسؤولية.


لماذا هذا الدعم من المجتمع؟ هل هناك خداع أم إدراك حقيقي للأمر؟
الاثنان في الوقت نفسه. في عصرنا هذا، سيليكون فالي هي مركز النجاح في مجال المشاريع. لا بد من النجاح الصعب، أصبح ذلك الحقيقة الاقتصاديّة. لا يكون أمام الأحزاب السياسيّة الفرنسيّة من بُد سوى أن يقولوا: "لنُقلّدنّ، لنفعل الشيء نفسه في ما يخصّنا". هذا يضحى إذن حقيقةً سياسيّة، الأمر الذي يُدعَم بنفقات عامّة.

تغيّر تمامًا مفهوم "الرقمي" اليوم عن 15 سنة ماضية؛ فمن قَبل، أعطى الرقمي مجالًا لمنصة (غاليكا Gallica)، التي تحوّل كتب المكتبة الوطنية الفرنسية إلى صيغة رقمية، أما اليوم فالرقمي يخنق حياتنا خنقًا بكل هذه المستشعرات. نحن نمضي في طريق سَلب الإنسان أفعاله وتجريده منها. ما يحدث من تَسويق حياة الإنسان، وتنظيمها خوارزميًا، يؤكّد أن الأمر يتعلق هنا بتغيّر في الحضارة وليس مجرد تغيّر بسيط في المجتمع. والشركات الناشئة تُسهم في هذا الأمر بشكل كبير.


لماذا هناك انجذاب خاص بين عالم الشركات الناشئة والليبرالية الاجتماعية؟
بسبب الروابط الإيديولوجيّة القويّة بين ما يُطلَق عليه "اليسار الجديد"، وبين العصر الذي تقدّم فيه سيليكون نفسها كـ"ثقافة مضادة" راغبة في وضع نهاية للبنى التراتبيّة وفي أن يكون الفرد مستقلًا. هذا يتماشى مع ما يُطلق عليه اليوم "الاقتصاد التشاركي" وإزالة الوساطة. وبالتوازي مع ذلك، نشأ فكر سياسي كان باراك أوباما هو أوّل المتحدّثين باسمه. هذا الفكر يَعِد بالشفافيّة وبالتحرّر بواسطة التكنولوجيا بل وحتى بتقدّم في الديمقراطية. جذبَ مثل هذا الخطاب كل الليبراليين الاجتماعيين في العالم، ولكنهم يرفضون أن يروا أن هناك مؤسّسات بالفعل قد خصخصت كل مظاهره، لا سيّما اقتصاد المنصات (أوبر، إير بي إن بي إلخ). من وقت لآخر، يقف هذا اليسار ضد تجاوزات (أوبر وإير بي إن بي) لكي يرتاح ضميره قليلًا، ولكنه يطمح في الوقت نفسه في تحويل باريس إلى سيليكون فالي فرنسيّة.

يجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نقف في وجه هذا النموذج الصناعي الذي يعمل خلال سنوات على القضاء على العديد من مكتسباتنا الاجتماعية، غير مكترث في الوقت نفسه بمبادئ مؤسِسة لحضارتنا.

المساهمون