"أكلتني الشجرة" لـ محمد عريقات.. حرب الشاعر ضد نفسه

05 يناير 2017
لي أوفان / كوريا الجنوبية
+ الخط -

تُقرأ المجموعة الشعرية "أكلتني الشجرة"، لـ محمد عريقات (الأردن / 1983)، كما لو أنّها زيارة إلى معرض للفن المعاصر؛ حيث يحلل الزائر الألوان ويصنع الدراما، يشكّك في كل قراءاته، يجمعها بورقة ويطويها لتصبح جزءًا من مكتبته.

يضع عريقات في بداية المجموعة، الصادرة حديثًا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مدخلين يشيران إلى شجرة العائلة، الشجرة التي كانت الفخ الأول في فخاخ كتابه الأربعة: الشجرة والشعبوية المفقودة واللاإنصهار في المدينة وفخ الشعر نفسه المتعثر في الفخاخ الثلاثة الأولى.

القصيدة الأولى تحمل عنوان الكتاب، وهي المدخل المفتاحي الذي يؤثث للمجموعة؛ إذ يعلن الشاعر عن معركته الشرسة مع فكي الشجرة الهائلة، عبر جمل فعلية قصيرة تجعل القصيدة تلهث مسرعة حتى آخر كلمة فيها، ترسم ملامح جمهرة من الناس والأشياء يشهدون الحادثة، حادثة التهام الشجرة لـ فريستها/ الشاعر.

تبدو القصيدة متقدمة زمنيًا على الأحداث، إذ يقع تسلسلها الزمني في منتصف الكتاب، لكن الحبكة الدرامية جعلتها في المقدمة لشد الانتباه وإثارة الفضول.

تتوالى القصائد الطوال نسبيًا حتى منتصف الكتاب، تجمعها صفات لغوية وبنائية؛ إنها ذات جمل قصيرة، تعريفية تزدحم استعاراتها ودهشتها بصف متعمد، يستشعر القارئ منه أن عريقات أمضى في تحريرها الساعات تلو الساعات. لعلّ قلق الشاعر من السرد والزوائد في داخلها جعلته يصنع بعض الجروح في جسد القصائد بعد أن بالغ في القطع والتشذيب.

ازدحام الاستعارات والدهشات في القصائد يصنع مشهدًا كأن القارئ يسير في درب مكهرب يصعقه في كل خطوة: "اللمبة المتدلية لم تعد مشنقة/ للظلام والفراشات"، "أنت العصية على الخريف/ كقميصي الاخضر"، "سأركض في الشبر/ الذي بيننا"، "سأركض/ إلى أن يفرغ الحذاء/ من قدمي". فهو يتناقض شعوريًا في بناء قصيدته، يكتب القصيدة بانفعال هائل غير مكترث لـ"حكاية" القصيدة سابرًا أغوار اللغة بفوضوية الثمل، ثم يعيد نحتها بتؤدة النحات الدقيق الذي يصف التفصيلة تلو الأخرى: "القصيدة/ يجرها الشاعر إلى الورقة/ من شعرها".

 يسير القارئ في متحف عريقات ويتفحص رحلته الهذيانية في مصارعة فكي الشجرة؛ إذ تبدو الرحلة جلية في قصيدة "مربط القلب" التي أهداها إلى رام الله: "لن أقترب من الجرح أكثر/ وأجسه بإصبع بارد/ سأدخل من بابك الخلفي/ متلفعًا بذقن طويل/ أشرب الماء من شفقة النادل/ وفي السر/ أشرب الويسكي/ كأي شاعر ما بعد حداثوي".

هنا، تسير مخيلة عريقات في مدينته في الوقت الذي يسير جسده في مكان آخر، فيدخل رام الله غريبًا وهو ابنها. هذه الرحلة، سواء في "مربط القلب"، أو في باقي القصائد المنتشرة على النصف الأول من المجموعة، تمثّل رحلة إلى الحتف الذي سنلتقيه في قصيدة "كل من حولي يسميني وأرفض"؛ حيث يُهزم عريقات بأجمل طريقة ممكنة، كاتبًا قصيدة يتبرأ فيها من نفسه واسمه، يود أن يكون فيها غصنًا بعيدًا عن الجذع، ويبكي على ملامحه التي ستمحوها معدة الشجرة بعد اقتضامها: "ما تفعله الرحى الثقيلة في ملامح القمح؛ وتسأل: بم يشبه الرغيف السنبلة سوى أنه جدواها؟".

هذه القصيدة القصيرة مقارنة بطول باقي قصائد الكتاب والغنية بلغتها، والمرهقة بجملها الطويلة، يزحف بعدها عريقات جريحًا إلى القصيدة التالية، "هكذا أذهب إلى النوم". يؤكد مطلع القصيدة مآل المعركة بينه وبين الشجرة كذلك: "لم يُشأ لنزيفي القليل من القطن والسوان".

يختم عريقات ملحمته مع الشجرة في قصيدة "أحتفل بالظل.. أغنم بالخسارة" بقوله "ليقطفني الموت عن شجرة العائلة"، وترتقي هذه القصيدة في الكتاب أعلى من الجميع، ببصمة الشاعر الخاصة. انسابت قصيدته كما تنساب الشتائم من فم السكران مبللة بدموعه، وأكملت الوقوع عمدًا في الفخاخ الاربعة. تلت القصيدة هذه قصائد أخرى كأنها ممرّات المخرج قبل أن يكتب على صفحة سوداء "النهاية".

عبر صفحات هذا الكتاب الشعري المرهق بتركيزه وحذوفاته وتجريديته، شاهد القارئ كل ما قرأ، وكانت القصائد تشكل دراما لا خطية وعرضًا صوريًا يشبه أعمال المخرج تيرينس ماليك.

الملحمة التي دارت بين عريقات والشجرة جعلت الكتاب أكثر من مجموعة شعرية تحمل قصائد متوافقة على مستوى اللغة أو الاسلوب، بل منحته سيناريو جميلًا وعميقًا ودافئًا حتى في أكثر النقاط توترًا داخل القصائد. من يقرأ هذه المجموعة بعين متفحصة قليلًا، سيعرف معنى أن يخوض الإنسان حربًا ضد نفسه ثم يخسرها.

المساهمون