المسؤولون الوهميون... مواطنون وقيادات ضحايا "انتحال الصفة" بالجزائر
تفشت ظاهرة المسؤولين الوهميين في الجزائر، إذ يبحث الجميع عن وسطاء سواء كانوا مواطنين أو حتى وزراء وولاة، ووصل الأمر حتى انتحال صفة مستشارين في رئاسة الجمهورية، وفق ما يوثقه التحقيق الذي تتبع حجم الظاهرة وأسبابها.
- تعرض رجل الأعمال الجزائري رياض تريكة، لمحاولة احتيال من سيدة ادعت بأنها زوجة قيادي أمني كبير، وحاولت إبرام شراكة معه في مشروع سياحي، بعد أن اتصلت به عبر "الفيسبوك"، وقدمت نفسها على أنها أرملة المدير السابق للدرك الوطني اللواء أحمد بوسطيلة، وتحدثت عن ملكيتها لمشاريع استثمارية وفنادق بأعالي ولاية عنابة، كما نشرت عدة صور في فنادق فخمة وسط مشاركات في حفلات رسمية لمسؤولين بالدولة.
أبلغ تريكة الأجهزة الأمنية بولاية عنابة في 20 يناير/كانون الثاني الماضي عن السيدة، بعد شكوك قوية انتابته، إذ كانت تؤجل في كل مرة زيارته إلى سلسلة فنادقها المزعومة وفي إحدى المرات طلبت منه مبلغ 200 ألف دينار (1500 دولار) على اعتبار أنها مساهمة أولية في المشروع، كما رفضت إطلاعه على وثائق ملكية مشروعها المزعوم، لكنه فوجئ باختفائها تماما وغلق صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي، عقب بداية التحقيق في القضية.
واقعة تريكة واحدة من بين 350 قضية، جرت وقائعها خلال الفترة الممتدة بين 1 يناير 2019 وحتى 15 مارس/آذار الماضي، وتتعلق جميعها بجنحة انتحال صفة، منها 40 قضية منذ بداية العام الجاري، بحسب بيانات رسمية من وزارة العدل وإدارة الأمن القضائي التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني والتي سجلت 6 قضايا انتحال صفة مستشار برئاسة الجمهورية بحسب معطيات تحصّلت عليها "العربي الجديد" من خلية الاتصال التابعة لها.
تفشي الفساد الإداري
يحذر المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا أمين سيدهم من انتشار واسع للظاهرة، قائلا في إفادة لـ"العربي الجديد": "المحاكم الجزائرية تستقبل أسبوعيا منذ بداية من عام 2019 قضايا مرتبطة بانتحال صفة مسؤولين في الدولة"، وهو ما يرجعه سيدهم وأستاذ القانون في جامعة باتنة وعضو المكتب الوطني للرابطة الجزائرية لحقوق الانسان نجيم بيطام إلى تغول إطارات الدولة في فترة نظام حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة واستغلالهم للنفوذ واستعمال المحاباة والمحسوبية، ما كرّس في اعتقاد الجزائريين فكرة مؤداها أن كل شيء يمكن تسويته عن طريق الوساطة.
وحسب بيطام، تبدأ الظاهرة من لدن المواطن الباحث عن الإطار أو المسؤول الذي يمكنه أن يقضي حاجته، وبالتالي يظهر المحتالون ممن يستغلون الفرصة ويدعون أنهم "ضباط مخابرات أو أصهرة الولاة وذوو مناصب أخرى" لينساق وراءهم المواطنون في محاولات للحصول على صفقات تجارية أو حتى سكن أو وظيفة.
وتعد الوساطة من أخطر صور الفساد الإداري الأكثر انتشارا وتفشيا في الجزائر بالإضافة المحاباة والمحسوبية، وهو ما يرجع إلى المركزية الشديدة وتعدد المستويات الإدارية وتعقيد الإجراءات ما يؤدي إلى التسويف والمماطلة والتأخير في قضاء المعاملات الإدارية وبالتالي ظهور بعض الانحرافات الإدارية مثل النكوص وعدم تحمل المسؤولية، بحسب ما رصدته أطروحة دكتوراه صادرة عام 2012، عن كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة محمد خيضر ببسكرة، تحت عنوان "الآليات القانونية لمكافحة الفساد الإداري في الجزائر".
حلت الجزائر في المرتبة 104 بمؤشر مدركات الفساد
وحلت الجزائر في المرتبة 104 من بين 179 دولة رصدها مؤشر مدركات الفساد لعام 2020 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، بينما كانت في المرتبة 106 في عام 2019، وفي المرتبة 105 في عام 2018، وتتقارب تلك الأرقام مع تقرير التنافسية العالمية لعام 2018-2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ حلت في المرتبة 92 عالميا من أصل 140 دولة وجاءت في المرتبة 96 عالميا في مجال انتشار الفساد.
لماذا انتشرت الظاهرة؟
يستغل متورطون في ظاهرة انتحال الصفة، التغييرات السياسية الأخيرة التي عرفتها الجزائر وحملة التنصيبات الجديدة التي رافقت وصول رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لسدة الحكم وظهور أسماء جديدة كمستشارين في الرئاسة، بحكم أن المنصّبين الجدد لا يزالون مجهولين للمواطنين، بحسب إفادة الخبير الأمني والعقيد المتقاعد في الجيش الجزائري عمر بن جانة، والذي يحمل المواطن جانبا من مسؤولية الانسياق وراء المحتالين دون البحث عن ضمانات أو حتى التأكد من صفة المعني. وهو ما يظهر عبر عينة من 3 قضايا انتحال صفة وثقتها معدة التحقيقات، عبر شكاوى مودعة لدى مصالح الأمن القضائي، سجلت بين شهري يناير ومارس الماضيين، وتتعلق القضية الأولى بصحافي يعمل لصالح قناة خاصة يتحدر من منطقة الشرق الجزائري ويبلغ من العمر 34 سنة انتحل صفة مستشار برئاسة الجمهورية، رفقة صديق له، ادعى أنه عقيد بالجيش وأوهما ضحاياهما أنهما مقربان من الرئاسة وسقط في فخهما ولاة جمهورية منهم والي العاصمة والبليدة، ورؤساء بلديات بهاتين الولايتين، وإطارات في مؤسسات مملوكة للحكومة، وحتى مواطنون عاديون للاستفادة من امتيازات مالية.
متورطون في ظاهرة انتحال الصفة أوقعوا بوزراء وولاة
واستغل الصحافي علاقاته بمسؤولين كبار في الدولة لإيهام ضحاياه أنه قادر على تسوية أوضاعهم، من بينهم إطار بمؤسسة البناء والأشغال العمومية المملوكة للحكومة "كوسيدار" يدعى فريد أمين، والذي أودع شكوى ضده لدى الأمن القضائي، وعليه قام قاضي التحقيق لدى محكمة الشراقة بتاريخ 6 أبريل/نيسان 2021 بإيداعه وصديقه سجن القليعة غرب العاصمة، ووجهت لهما تهمة انتحال صفة إطار رفيع في الدولة.
كما تتعلق القضية الثانية بالستيني محمد عبد الرزاق، المتحدر من منطقة برج البحري في العاصمة، والذي وقع ضحية انتحل صفة عقيد ومستشار في الرئاسة، بينما هو في الأصل إطار سابق بالمديرية العامة للحماية المدنية، ويقول الضحية عبدالرزاق لـ "العربي الجديد" إن المتهم أوهم بها العديد من الضحايا بأنه قريب من صناع القرار في البلاد. مضيفا: "قدمت شكوى لدى الوالي المنتدب احتجاجا على استيلاء المتهم على أرضي وتسييجها دون وجه حق، وكذلك أودعت شكوى لدى مصالح الأمن ضد المعني بتاريخ 27 مارس وجار التحقيق في القضية".
لكن هشام حيدر، المتحدر من ولاية المسيلة جنوب شرق العاصمة، كان حظه أفضل من سابقيه، إذ انتابته شكوك في منتحل صفة إطار في الشرطة الجزائرية، تعرف عليه عبر مواقع التواصل، أوهمه بأنه قادر على تسوية مشكلته في الحصول على سكن اجتماعي (يوزع من طرف الحكومة على ذوي الدخل المحدود)، مدعيا القرب من مسؤولين في الولاية وطلب منه مبلغا ماليا، إلا أن حيدر فوجئ قبل التعاطي مع المحتال، بإعلان صادر بتاريخ 5 أبريل عن المديرية العامة للأمن الوطني يشير إلى توقيف شخص من قبل مصالح أمن ولاية المسيلة متورط في قضية احتيال ونصب وانتحال صفة موظف في الشرطة وتبين بعدها أن المعني هو الشخص الذي حاول تسوية ملفه السكني مقابل الحصول على مبلغ مالي.
ثغرات تسهّل الاحتيال
يعترف فؤاد سبوتة مقرر اللجنة القانونية بمجلس الأمة، (ينتمي إلى حزب جبهة التحرير الوطني الموالي للسلطة)، بأن ظاهرة انتحال الصفة، انتشرت في الجزائر بشكل مثير ومقلق وتعدت كافة المستويات منذ بداية عام 2019، ووصلت الى حد انتحال صفة شخصيات معروفة في الدولة الجزائرية، وكبار المسؤولين، قائلا لـ"العربي الجديد": "أحضر لتوجيه سؤال مكتوب لوزير العدل حافظ الاختام بلقاسم زغماتي حول هذه القضية ومشاريع القوانين التي يمكن تحضيرها لوضع حد لها من خلال تشديد العقوبات واتخاذ الإجراءات التي من شأنها التقليل من جريمة انتحال الصفة"، وهذه المسألة يجب أن تؤخذ على محمل الجد، كما يقول سبوتة.
ويتفق المحامي والقاضي السابق بمجلس قضاء باتنة وبسكرة جنوب شرق العاصمة، عثمانية خميسي مع البرلماني سبوتة في عدم فعالية السياسة العقابية الموجهة ضد جرم انتحال الصفة في الجزائر، ما تسبب في تزايد عدد القضايا المسجلة في السنتين الأخيرتين، مؤكدا وجود ثغرات يستغلها منتحلو الصفة، وهي "عقوبات خفيفة وغير مشدّدة، وغرامات مالية لا تساوي شيئا أمام ما يتم جنيه من جريمة انتحال الصفة" مضيفا "إذا فشلت السياسة في الحد من الجريمة يجب مراجعتها لأنها لم تعد تفي بالوظيفة العقابية"، وأردف قائلا "انتحال صفة سلوك يمس المصلحة العامة، وسمعة الصفة التي يتم انتحالها سواء كانت إدارية أو عسكرية، ويُحدث ضررا كبيرا داخل المجتمع".
وصنّف المشرع الجزائري سلوك انتحال صفة الغير في قانون العقوبات ضمن المناورات التي يعتمدها الشخص من أجل مراوغة الغير. وتنص المادة 372 من قانون العقوبات 06/23 المؤرخ في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2006 بأن "كل من استعمل أسماء كاذبة أو صفات كاذبة أو استخدم وسائل احتيالية بهدف الإيهام بوجود نشاط وهمي ويستلم تبعا لذلك أو يتلقى أو يحاول تسلم أو تلقي أموال أو منقولات أو أوراق مالية يعد ناصبا أو محاولا النصب" وهنا يقول القاضي خميسي أن المادة 242 من قانون العقوبات تفرض عقوبة السجن 5 سنوات وغرامة مالية على منتحلي الصفة، وتنص المادة على أن:"كل من تدخل، بغير صفة، في الوظائف العمومية، المدنية أو العسكرية أو قام بعمل من أعمال هذه الوظائف، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 100.000 دينار إلى 500.000 دينار (بين 746 دولارا و3732 دولارا)، ما لم يكن الفعل جريمة أشد"، لكن هذه مبالغ، يراها العقيد بن جانة، قليلة وتدخل ضمن أسباب استفحال ظاهرة انتحال الصفة، وتابع لـ"العربي الجديد": "منتحل الصفة في حال إلقاء القبض عليه أقصى عقوبة تتخذ ضده هي الحبس 5 سنوات".