تتصاعد حالات التضييق على الأكاديميين والباحثين في مؤسسات فرنسية، بسبب تزايد حضور اليمين المتطرف في المجال العام، ما أسفر عن امتداد الاستقطاب إلى المعرفة، ليحجب مقالا علميا أو ينهي عمل أستاذ لديه وجهة نظر مختلفة.
- لم يتوقع الباحث الفرنسي في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحث العلمي، سباستيان روشيه، أن يفقد عمله بالمدرسة الوطنية العليا للشرطة بعد 26 عاما من تدريس مادة "تحليل انعدام الأمن"، والأنكي أن الأمر تم دون سابق إنذار ولمجرد "انتقاد عنف الشرطة وقساوة تعاملها مع متظاهري السترات الصفراء في حوار مع صحيفة "ليبراسيون" بتاريخ 16 أغسطس/آب 2019"، إلى جانب تغريدات نشرها دفاعا عن المحتجين منتقدا كيفية تعامل السلطات معهم، ما دفع الإدارة إلى الاستغناء عن خدماته دون إعلان السبب الرئيسي، لكن روشيه يعتبر ما حدث "قرارا سياسيا لكون المدرسة جزءا من نظام تعليمي توجهه وزارة الداخلية".
وبحسب رد المدرسة على "العربي الجديد" فإنها تعزو القرار إلى موقفها المعلن بتاريخ 20 أغسطس 2019، بأن ما جرى تزامن مع "مراجعة شاملة للتوجهات ومحتوى تعليمي معين".
لكن وقائع ما جرى مع الباحث روشيه والتي تكررت مع آخرين وفق ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد"، تكشف عن جانب من حالات التضييق والاستهداف لمؤسسات وأكاديميين وباحثين، فيما يمكن وصفه بـ "أزمة سياسية وتنظيمية تتضمن تهديدات وقيودا قانونية على الأبحاث والتعليم"، بحسب تقييم ليفيو ماتي عميد جامعة أوروبا الوسطى ومدير المرصد العالمي للحرية الأكاديمية، في ورقة بحثية بعنوان "أزمة الحرية الأكاديمية في الغرب" نشرها في مارس/آذار 2021 على موقع بروجيكت سنديكيت.
تضييق ممنهج
فرضت الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD - مؤسسة تنموية عامة)، رقابة على عدد خاص من مجلة أفريقيا المعاصرة التي كانت تمولها وتصدرها حتى يونيو/حزيران 2022، بعدما تناولت السياسة الخارجية الفرنسية في أفريقيا والتدخل العسكري في مالي، كما يوضح الكاتب والأكاديمي الكندي برونو شاربونو، قائلا لـ"العربي الجديد": "بحسب القواعد المعمول بها قدم المجلس العلمي المقالات للتقييم في 22 مارس 2019، لكن الوكالة منعت النشر، ما أسفر عن استقالة المدير مارك أنطوان دي مونتكلوس، وثلاثة أعضاء آخرين في المجلس العلمي للمجلة، احتجاجا على التدخل السياسي".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تلقى شاربونو طلبات مستمرة لمراجعة نصوصه بعد ذلك، إلى جانب التأخيرات غير المعتادة، ما يوضح بجلاء وجود عقبات سياسية أكدتها استقالة المدير، قائلا: "موضوع المشاركة العسكرية الفرنسية في مالي صار من المحرمات، وباتت الوكالة حساسة جدا من الناحية السياسية بحيث لا تسمح بالآراء المعارضة".
انتقاد سياسات الدولة يحرم باحث من نشر مقال بمجلة متخصصة
ودفع التضييق شاربونو إلى الاحتجاج، وتضامن معه علماء وباحثون اعتبروا الواقعة حالة نموذجية لما يمكن أن يكون عليه تدخل النظام السياسي في عمل الأكاديميين، ويستذكر شاربونو ما أخبره به رئيس وزراء مالي السابق سوميليو بوبي مايجا بأن مسؤولا فرنسيا رفيع المستوى وصف الباحثين المحتجين بـ "المتطرفين الهستيريين"، ويصف مشاعره قائلا: "عشت تجربة الخوف من الوقوع ضحية لرقابة الدولة وعانيت من الضغط والتوتر بسبب ضغوط لاحقت نصوصي اللاحقة بالإضافة إلى إحساس بالمسؤولية والشعور بالذنب تجاه زملائي وأصدقائي الداعمين لي، بما في ذلك الاضطرار إلى البحث عن مكان آخر لنشر المقالة، وكان بالفعل المجلة الكندية للدراسات الأفريقية، والتي نشرت المادة في عدد ديسمبر/كانون الأول 2019، وعرضت لنهج مكافحة الإرهاب في مالي والساحل بقيادة فرنسا، وكشفت حدوده وآثاره على النزاع".
التذرع بـ"الإسلام اليساري" لخنق الحريات
يستخدم مصطلح "اليسار الإسلامي" لوصف التقارب المتخيل بين "اليسار المتطرف" و"الإسلام الأصولي"، وبات اليوم ذما موجها للسياسيين والمثقفين الذين يهتمون بالتمييز الذي يستهدف فئات محددة في المجتمع الفرنسي، بحسب ما يوضحه سلام الكواكبي، مدير مكتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس.
وتبدو خطورة استخدام المصطلح عبر حالة الجدل التي أثارتها تصريحات وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسية السابقة فريديريك فيدال، ضمن مقابلة أجرتها على قناة CNEWS الفرنسية في 14 فبراير/شباط عام 2021، إذ دعت إلى إجراء تحقيق حول انتشار أيديولوجية "اليسار الإسلامي" داخل الجامعات الفرنسية، ويعزو الباحث الأكاديمي في العلوم والفيزياء غالب بن الشيخ رئيس مؤسسة "إسلام فرنسا" (معنية بإشاعة روح التسامح بين المواطنين الفرنسيين)، صك تلك المصطلحات إلى هيمنة التيار الفكري لليمين المتطرف وترويجها إعلاميا عبر منابره، قائلا: "لا يتوقف الأمر عند الإسلام اليساري، بل نجد الإسلام النازي والإسلام الفاشي والإسلام المارق والإسلام الشمولي المتسلط، ونحوها من العبارات التي تقدح في الإسلام، بل قد بلغ الحال بعضهم أن يقول إنه ليس هناك فرق بين الإسلام باعتباره أيديولوجية والإسلام باعتباره دينا، في محاولة لإقصاء المسلمين وإضفاء الشرعية على التجاوزات التي ترتكب في حقهم"، مشيرا إلى تصاعد الأمر إلى حد التشكيك في الطابع العلمي لمصطلح "الإسلاموفوبيا" على يد أستاذ اللغة والحضارة الألمانية في معهد الدراسات السياسية (IEP) بمدينة غرونوبل، كلاوس كينزلر، ما أدى إلى قرار من مديرة المعهد، سابين ساوروغر، بتعليق عمل الأستاذ في ديسمبر/كانون الأول المنصرم، لترد رئيسة منطقة أوفيرني رون-ألب، لوران ووكيز، عبر قطع جميع الإعانات المالية المخصصة للمعهد رفضا لقرار فصل المدرس، معتبرة أن وراء الأمر "دوافع سياسية"، وتطور الصراع بعدها ليصبح بين زملاء المؤسسة وطلبتها، وجعل الوزيرة فيدال ترسل إلى المعهد لجنة خاصة للتحقيق في الأمر.
تزايد حضور اليمين المتطرف يهدد البحث العلمي في فرنسا
وتابع بن الشيخ أن الهيمنة الفكرية والثقافية اليمينية تزايدت في السنوات الأخيرة، و"أي رجل سياسة أو إعلامي أو مثقف أو أكاديمي مختلف مع اليمين المتطرف أو حتى من يبدي تعاطفا مع اليسار يرمى بـ "الإسلامي اليساري"، ورغم المحاولات الكثيرة للإحاطة بمفهوم اليسار الإسلامي، تبقى جذور ابتداع المصطلح مبهمة ومدار اختلاف، بحسب الكواكبي، مشيرا إلى أن بيير أندريه تادييف وهو عالم اجتماع فرنسي قريب من أوساط اليمين المحافظ، استخدمه عام 2000 لوصم من يؤيدون القضية الفلسطينية في أوساط اليسار الفرنسي، لكن الأمر كان محدوداً للغاية ومدعاة للخجل أو التردد لدى غالبية المثقفين من اليسار ومن اليمين عدا اليمين المتطرف، غير أنه مع ازدياد شعبوية الخطاب السياسي الفرنسي، صار اللجوء إلى هذا النعت منتشراً بشدة وحتى في بعض أوساط اليسار المغالي في العلمانية، وفق الكواكبي.
ويعتبر بن الشيخ أن تركيز الوزيرة على هذا الأمر وصرف النظر عن المشاكل الحقيقة التي تعاني منها الجامعات الفرنسية ينمّ عن "قلة دراية بأوضاعها".
هذه المشاكل تتفاقم، كما يقول لـ"العربي الجديد"، عبد الرحمن مكاوي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ديجون Fontaine-lès-Dijon، قائلا: "الطلاب يعانون غياب الدعم المالي من الدولة ونقص المنح الدراسية، عالما بأن غالبيتهم من الطبقة المتوسطة التي تتأثر بتراجع الوضع الاقتصادي".
ووسط تزايد حالات التضييق، راسل بن الشيخ بحكم عمله في المؤسسة وعمله في سلك التعليم أيضا وزير التربية الوطنية الفرنسي السابق جان ميشيل بلانكير، بهدف تنبيهه إلى "الاستغلال الممنهج" و"التوظيف المغرض" لمفاهيم مثل اليسار الإسلامي داخل مؤسساتٍ تعليمية قصد تصفية حسابات سياسية أو الانتقام من جهة ما، وطلب من خلال رسالته المرسلة عام 2020 والتي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها تفسيرات لعدة وقائع وأحداث مرتبطة بالموضوع دون تلقي أي تجاوب من قِبل الوزارة.
هل المعرفة في خطر؟
حصلت فرنسا على 0.881 نقطة على مؤشر الحريات الأكاديمية السنوي الصادر عن معهد السياسة العامة العالمي (مؤسسة غير ربحية مقرها برلين)، في مارس/آذار 2021، ورغم أنها من بين الفئة الأولى والتي تضم الدول ذات الدرجات الأعلى، لكن 30 دولة تتفوق عليها مثل باربادوس 0.940 والأرجنتين 0.942، والنمسا 0.966 وبلجيكا 0.970، وكندا 0.906، وتشيلي 0.945 وكوستاريكا 0.935 درجة.
وفي محاولة لتحديد أركان الحرية الأكاديمية في فرنسا، يقول أستاذ القانون العام والباحث الجامعي أوليفييه بيود في كتابه "المعرفة في خطر": "إنها حرية، يجب في البداية، أن تحمي الأكاديميين من التدخل الخارجي الذي قد يمنعهم من القيام بعملهم، كما يجب أن يكون الأكاديميون أحرارا في إجراء بحوثهم، دون الخضوع إلى التعليمات، ليحدد موضوع بحثه بحرية دون تدخل، كما يجب أن يكون حرا في التدريس" كما يقول.
ويسوق الكاتب مثالا لتوضيح ما سبق قائلا إنه "عندما نحضر الفصول الدراسية في الجامعات، فإننا لسنا ملزمين ببرنامج كما هو الحال في المدرسة الثانوية، نحن أحرار في تحديد طريقة ومحتوى تعليمنا".
لكن ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" عبر حالات التضييق على الأكاديميين والباحثين واستبعادهم من عملهم مناف لمعايير حماية الحرية الأكاديمية، إذ يقول أستاذ مادة الآداب العصرية في ثانوية رومان رولاند الفرنسية، الفرنسي من أصول جزائرية صلاح العمراني، والذي تم إيقافه عن العمل بالتدريس لمدة 4 أشهر "تعرضت لحملة شرسة من التحريض والافتراءات غير الأخلاقية على يد بعض أولياء التلاميذ، واتهموني بتعريض الطلاب للخطر الشديد وممارسة العنف ضد الأطفال، والتلقين الجهادي لهم"، يضيف: "لدي تاريخ وظيفي قوي، كنت أدرس في مصر في معهد تابع للبعثة الفرنسية (Mission laique francaise) التي تأسست عام 1902 لنشر اللغة والحضارة والثقافة الفرنسية، وتقدمت بشكوى عقب الحادثة إلى مفتشي أكاديمية التعليم في وزارة التعليم، ووعدوني بتقرير مفصل في أقرب الآجال، غير أنهم لم ينجزوا شيئا حتى اليوم"، وهو ما يفسره العمراني، بـ"حفظ ماء وجه الإدارة".
وخلفت الحادثة في نفس المدرس جروحا عميقة يعبر عنها قائلا "عندما تتلطخ سمعتك بشكل خطير بسبب حملة افتراءات، فهذا يعني استهتارا أخلاقيا من مسؤول التربية الوطنية، فضلا عن تعريض العملية التعليمية والتربوية للخطر".