بعيداً عن الجدل الذي أثاره المسلسل القصير، "الجاسوس"، الذي بثته نتفليكس مؤخراً، هناك عامل مشترك بين حكايته المتخيّلة وبين الحكاية التاريخيّة، وهو أن إيلي كوهين ضُبط بالجرم المشهود، إذ تمت مداهمته أثناء تواصله مع الاحتلال الإسرائيلي. ما يحيلنا إلى فكرة "ضُبط بالجرم المشهود"، أو "كُشف أمره"، الطاغية في حكايات الجواسيس، والتي دائماً تتخذ أبعاداً فضائحيّة سياسيّة في حال حصلت، وكأن تاريخ الجاسوسيّة أشبه بتاريخ أخطاء فرديّ وفشل مخابراتيّ، خصوصاً أن هناك دوماً حكايتين رسميتين في ما يتعلق بأهمّية جاسوس ما، وهاتان الحكايتان دوماً متناقضتان، لكن المثير للإعجاب، هو قدرة الجاسوس أو رجل المخابرات على "اختراق" العدو، لا طبيعة المعلومات التي تمكن أو لم يتمكن من الحصول عليها.
يصف كريستوفر أندرو، صاحب كتاب "العالم السريّ: تاريخ الاستخبارات"، أساليب التجسس، بأنها دوماً مهددة بالفشل إن كانت أفضل، و"نادرة هي الحالات التي تجد فيها معلومة مسروقة كانت قادرة على تغيير مسار معركة"، وهذا الأمر حصل مع أحداث 11 أيلول، فالمفارقة تكمن في أنه بالرغم من كلّ جواسيس ومخابرات الولايات المتّحدة، لم تتمكن من إيقاف أو التنبؤ بالأمر، بل إن بعض نظريات المؤامرة تقول إن هناك من سرب معلومات للمخابرات الأميركيّة عن الهجمات، لكنهم لم يأخذوها على محمل الجدّ.
تكشف حكايات الجواسيس غباء نظام الاستخبارات نفسه، و"صرامة" القواعد المتبعة لأخذ معلومة ما كحقيقة استخباراتيّة، وتُكشف هذه السذاجة والصرامة حين تفشل المخابرات في القيام بالمطلوب منها، لكن لم كل هذه السريّة والهالة المحيطة بالجاسوس إن كان يتم الاستخفاف بما يقدّمونه، إذ تجاهل ستالين المعلومات التي وصلته من السفارة الألمانية في اليابان عام 1941، والتي يشرح فيها الجاسوس ريتشارد سورجي بدقة أسلوب حركة الجيش الألماني المتقدم نحو روسيا، بل إنه هدد بالقتل كل من يأخذ هذه المعلومات على محمل الجدّ.
هنا، يبدو أن الاختلاف في قيمة الجاسوس سببه فقدانه مصداقيته، ولكن الافتتان بشخصه يأتي من حكاياته الشخصيّة التي تتجاوز ما قام به حقيقة، فهي تحوي صيغة المغامرة في أوجها: تنكر، أسلحة غريبة، مخاطرة. أما عدم الثقة بالجواسيس حتى من قبل من يعملون لديهم، سببها أن اللحظة التي يدرك فيها الجاسوس أو رجل المخابرات أنه يجمع معلومات هامة، يتيقّن أن "العدو" يقوم بذات الشيء، لتفقد المعلومات جديّتها بسبب الخوف من أنها نفسها غير صحيحة أو موجودة كطعم.
تصل الحيل المخابراتيّة حد اللامعقول أحياناً، كمشاريع التلاعب بالدماغ وغسيل العقول، كحالة سيدني غوتليب الذي كان جزءاً من برنامج حكومي لتطوير عقاقير للتحكم بالعقل، لينتهي به الأمر بتصنيع الـ "LSD"، أشهر العقاقير المهلوسة، لكن قبل ذلك اختبارها على أفراد ضعفاء ومساجين ومرضى في سبيل التأكد من قدرتها على "غسل الدماغ"، من دون أي مراعاة لآثارها العقليّة، وذلك في سبيل توظيفها مخابراتيا.
الصناعة الثقافيّة تقدم نماذج كثيرة للجواسيس ورجال المخابرات، ولعل أشهرهم جيمس بوند، الذي يقال إن سلسلة الروايات التي قدمت شخصيته في الخمسينيات، ليست إلا محاولة لإعادة الثقة في مفهوم الرجولة، خصوصاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة، إذ انتشرت بين عملاء الـCIA والـFBI، كونها تقدّم شكلاً مختلفاً لرجل الاستخبارات، ذاك الذي بلا هويّة، ولا اسم حقيقي، زير النساء، و"الحرّيف"، الذي لا يختبئ ولا يتنكر بصورة كافيّة، بل فخور باسمه، ليكون نقيض الجاسوس التقليديّ الذي يسعى للاختفاء دوماً، فبوند يختفي عبر شدة ظهوره، وجهه واسمه معروفان، لكن الأهم، كما في سلسلة الأفلام، يمكن استبداله بآخر.
نرى نقيض نجاحات جيمس بوند في المسلسل الكرتونيّ "آرتشر" (2009 - حتى الآن)، الذي يتحدث أيضاً عن عميل سريّ لكنه طفولي، ذو مشاكل أبويّة، متعلق بوالدته، الأهمّ أنه ظاهرة صوتيّة، يصرخ ويبكي دوماً لأنه بحاجة أمه التي تصلح أخطاءه دوماً، هي في ذات الوقت رئيسته في العمل ولا تأخذه على محمل الجدّ، الأهم أنه جاسوس وعميل فاشل، سكير، يخرّب مهماته، يصاب بكل الأذى الذي لا يظهر على جسد بوند.
بسبب إطلاق الرصاص عليه وسقوطه وحركاته الخطرة، هو أخرق باستخدام السلاح ويطلق النار على أصدقائه، هو الصورة الساخرة من العميل السريّ إن كان "من لحم ودم".
اقــرأ أيضاً
سواء كانت حكايات الجواسيس ورجال المخابرات حقيقيّة أو وهمية، هناك دوماً مفارقة ساخرة من نوع ما، صحيح أن بعضها "ناجح"، لكن الغالبية العظمى تبدو قائمة على مصادفات لا يمكن تصديقها، حتى إن حصلت في الحياة "الحقيقيّة"؛ فمصداقيتها وطبيعة المعلومات التي تم الحصول عليها دوماً محطّ الشكّ، وبالطبع نتحدث عن الأشكال التقليديّة للتجسس، التي تبدو الآن من دون جدوى، في ظل أشكال المراقبة الرقميّة، والتلاعب بالرأي العام، لتبدو مهمّات الجواسيس ورجال الاستخبارات الابتزاز أكثر من الحصول على المعلومات، كحالة الاجتماعات الغريبة بين ترامب والروس، والتي يقال إنها لابتزازه بسبب علاقاته المشبوهة في روسيا مع بائعات هوى، لكن المثير للاهتمام أن الموضوع علنيّ، ولم يتم بصورة سريّة، بل نتداوله ونشكّ به، ما يعني أيضاً الشكّ بطبيعة المعلومات نفسها ومدى مصداقيتها، حتى لو كان ترامب نفسه من لمّح إليها.
يصف كريستوفر أندرو، صاحب كتاب "العالم السريّ: تاريخ الاستخبارات"، أساليب التجسس، بأنها دوماً مهددة بالفشل إن كانت أفضل، و"نادرة هي الحالات التي تجد فيها معلومة مسروقة كانت قادرة على تغيير مسار معركة"، وهذا الأمر حصل مع أحداث 11 أيلول، فالمفارقة تكمن في أنه بالرغم من كلّ جواسيس ومخابرات الولايات المتّحدة، لم تتمكن من إيقاف أو التنبؤ بالأمر، بل إن بعض نظريات المؤامرة تقول إن هناك من سرب معلومات للمخابرات الأميركيّة عن الهجمات، لكنهم لم يأخذوها على محمل الجدّ.
تكشف حكايات الجواسيس غباء نظام الاستخبارات نفسه، و"صرامة" القواعد المتبعة لأخذ معلومة ما كحقيقة استخباراتيّة، وتُكشف هذه السذاجة والصرامة حين تفشل المخابرات في القيام بالمطلوب منها، لكن لم كل هذه السريّة والهالة المحيطة بالجاسوس إن كان يتم الاستخفاف بما يقدّمونه، إذ تجاهل ستالين المعلومات التي وصلته من السفارة الألمانية في اليابان عام 1941، والتي يشرح فيها الجاسوس ريتشارد سورجي بدقة أسلوب حركة الجيش الألماني المتقدم نحو روسيا، بل إنه هدد بالقتل كل من يأخذ هذه المعلومات على محمل الجدّ.
هنا، يبدو أن الاختلاف في قيمة الجاسوس سببه فقدانه مصداقيته، ولكن الافتتان بشخصه يأتي من حكاياته الشخصيّة التي تتجاوز ما قام به حقيقة، فهي تحوي صيغة المغامرة في أوجها: تنكر، أسلحة غريبة، مخاطرة. أما عدم الثقة بالجواسيس حتى من قبل من يعملون لديهم، سببها أن اللحظة التي يدرك فيها الجاسوس أو رجل المخابرات أنه يجمع معلومات هامة، يتيقّن أن "العدو" يقوم بذات الشيء، لتفقد المعلومات جديّتها بسبب الخوف من أنها نفسها غير صحيحة أو موجودة كطعم.
تصل الحيل المخابراتيّة حد اللامعقول أحياناً، كمشاريع التلاعب بالدماغ وغسيل العقول، كحالة سيدني غوتليب الذي كان جزءاً من برنامج حكومي لتطوير عقاقير للتحكم بالعقل، لينتهي به الأمر بتصنيع الـ "LSD"، أشهر العقاقير المهلوسة، لكن قبل ذلك اختبارها على أفراد ضعفاء ومساجين ومرضى في سبيل التأكد من قدرتها على "غسل الدماغ"، من دون أي مراعاة لآثارها العقليّة، وذلك في سبيل توظيفها مخابراتيا.
الصناعة الثقافيّة تقدم نماذج كثيرة للجواسيس ورجال المخابرات، ولعل أشهرهم جيمس بوند، الذي يقال إن سلسلة الروايات التي قدمت شخصيته في الخمسينيات، ليست إلا محاولة لإعادة الثقة في مفهوم الرجولة، خصوصاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة، إذ انتشرت بين عملاء الـCIA والـFBI، كونها تقدّم شكلاً مختلفاً لرجل الاستخبارات، ذاك الذي بلا هويّة، ولا اسم حقيقي، زير النساء، و"الحرّيف"، الذي لا يختبئ ولا يتنكر بصورة كافيّة، بل فخور باسمه، ليكون نقيض الجاسوس التقليديّ الذي يسعى للاختفاء دوماً، فبوند يختفي عبر شدة ظهوره، وجهه واسمه معروفان، لكن الأهم، كما في سلسلة الأفلام، يمكن استبداله بآخر.
نرى نقيض نجاحات جيمس بوند في المسلسل الكرتونيّ "آرتشر" (2009 - حتى الآن)، الذي يتحدث أيضاً عن عميل سريّ لكنه طفولي، ذو مشاكل أبويّة، متعلق بوالدته، الأهمّ أنه ظاهرة صوتيّة، يصرخ ويبكي دوماً لأنه بحاجة أمه التي تصلح أخطاءه دوماً، هي في ذات الوقت رئيسته في العمل ولا تأخذه على محمل الجدّ، الأهم أنه جاسوس وعميل فاشل، سكير، يخرّب مهماته، يصاب بكل الأذى الذي لا يظهر على جسد بوند.
بسبب إطلاق الرصاص عليه وسقوطه وحركاته الخطرة، هو أخرق باستخدام السلاح ويطلق النار على أصدقائه، هو الصورة الساخرة من العميل السريّ إن كان "من لحم ودم".