"شافية" محمد زين الدين مرآة سينمائية لواقع وحياة وانفعالات

06 نوفمبر 2019
فاطمة عاطف الشافية: مرايا ذات وأرواح (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تعيش أمباركة (فاطمة عاطف) في بلدة يُطلّ عليها مصنع للفوسفات، برفقة ابنها بالتبنّي (16 عاماً)، عبدو (المهدي العروبي). تعتاش من ممارستها الطب الشعبي، لمعالجة أمراض ناس البلدة، غير المذكور اسمها، رغم أنّ هناك من يُحيلها على "واد زم"، مسقط رأس محمد زين الدين (1957)، مخرج "أمباركة" (2018)، المُشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ9 (4 – 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" (السويد). إحالة غير معنيّة بتأكيد صحّة المعلومة، بقدر ما تقول إنّ التشابه حاصلٌ بين البلدتين، وإنّ زين الدين يستلّ مناخات فيلمه الأخير هذا، وحكاياته وفضاءاته وشخصياته، من مسقط رأسه.

تبدو أمباركة، بمهنتها تلك، المنقذة الوحيدة في البلدة، فهي "الشافية" (كما العنوان باللغة الفرنسية) لأبنائها من أمراض عديدة يُصابون بها. فالمصنع يبثّ سمومًا، والحياة قاسية، والرغبة في امتلاك أبسط الأشياء تصطدم بقهر وفقر وارتباك. ابنها بالتبنّي أمّيٌّ، لكنه يجتهد لتعلّم القراءة والكتابة. علاقته بها غير سليمة، فهو يُدرك أنّه مُتبنَّى، ما يُشعره بأنّه غير خاضعٍ لها، رغم تسلّطها عليه، والتسلّط لن يحول دون منحها حنانًا له، في أوقات مختلفة. يحاول الانقلاب عليها مرارًا، لكنّه محتاج إلى أدوات للنجاة، يظنّ أن القراءة والكتابة بعضها. محتاج إلى خلاصٍ من الخراب، المُقيم في البلدة، والمعتمِل في روحه. صديقة له تساعده، لكنّها تصطدم بتخلّفه، غير المُبرَّر لها، عن موعدٍ معها منتصف إحدى الليالي، للخروج النهائي من البلدة. هي لن تعرف سبب تخلّفه، ولعلّ هذا غير مهمّ.

شْعيبة (أحمد مستفيد) نصّاب وسارق. يبيع "الحوت" (تعبير مغربي شعبي يعني السمك)، وعند انتهائه من "وظيفته" هذه، يلجأ إلى السرقة. شاب غير عابئ بأحد، وغير معنيّ بأحد. نزق وغاضب، وفي الوقت نفسه ذكيّ ومحتال. يُصاب بطفح جلديّ، فينصحه صديقه عبدو بزيارة "الشافية". زيارة تليها أخرى، قبل أن تتحوّل لاحقًا إلى علاقة بينهما، يتّضح فيما بعد أنّها "جسدية" استغلالية بالنسبة إليه، وروحية وانفعالية بالنسبة إليها، بالإضافة إلى الجسد/ الجنس، فهي محرومةٌ الزوج والرجل. علاقة ينتبه إليها عبدو، فينتفض بصمت، ويحاول هروبًا، لكنه يفشل. شْعيبة يسرق أمباركة، فتظنّ أن عبدو هو السارق. وعند اكتشاف عبدو السارق الفعليّ، يحاول تبرئة نفسه من دون جدوى. تزداد النزاعات، وتنتهي مسارات الشخصيات الثلاث بمزيدٍ من المآسي، فعبدو يُقتَل خطأ على يدي أمباركة، التي تتمكّن من اتّهام شْعيبة بالفعل الجُرميّ أمام أهل البلدة جميعهم.



لن يُعطِّل كشف الخاتمة متعة المُشاهدة. قد تكون الخاتمة مُتوقّعة، وإنْ بشكلٍ غير واضح تمامًا. أو ربما هي مطلوبة، لانسجامها الدرامي مع المسارات والمصائر. فالعلاقات الناشئة بين هؤلاء الثلاثة طافحة باضطرابات وغضب وتملّق، كما برغبات معطّلة، وخيبات مؤلمة، وقسوة متنوّعة الأشكال والأساليب، وعنف مبطّن ينكشف أحيانًا بكلمة أو نبرة أو سلوك أو انفعال. الشخصيات كلّها معطوبة، تعاني غالبيتها أمراضًا في الجسد، تحاول الشافية معالجتها بما لديها من خبرة فطرية، وأخرى في الروح، وهذا معقودٌ على احتمالات كثيرة، وإنْ يتبدّى بعضها في مظاهر سلوكيّة، كأنْ يؤدّي الاضطراب كلّه إلى مآسٍ، بل إلى مزيدٍ من المآسي والانكسارات والصدامات.

التقاط هذا كلّه، سينمائيًا ودراميًا وحسّيًا، مشغول برويّة لن تحجب حجم الغليان، بقدر ما تُساهم في تبيان معالمه ومساره وتأثيراته، والمآل التي يبلغها. تصوير البلدة وناسها وتفاصيلها، المكانية والروحية، مكتفٍ بكاميرا (لوكا كوأسّان) تراقب وتتابع وتنقل ما تراقبه وتتابعه، من دون إضافات بصرية أو جمالية، كأنّها توثِّق لكنها تنفضّ عن الفنّ الوثائقي، فهذه لن تكون مهمّتها.

الحالات والانفعالات والشخصيات والفضاءات والأمكنة والعلاقات مستلّة من وقائع العيش في البلدة، ومنقولة إلى الشاشة الكبيرة بأسلوب يوهم ببساطة وسلاسة، لكنّه يتمكّن سريعًا من توريط المتابع في خفايا أرواح، وخبايا أمكنة، ومسام أجساد، وارتباك انفعالات ورغبات. كأنّ محمد زين الدين مكتفٍ بـ"جسّ نبض" المكان وفضائه، والذات وامتداداتها، والروح وغليانها، والنفس ومتاهاتها، فإذا بـ"جسّ النبض" هذا يتحوّل إلى بناء سينمائي، يرتكز على تصوير دقيق للتفاصيل والهوامش والمتن، وعلى توليف (إيلينا كابريا) يبني تلك العمارة السينمائية على وقائع العيش في دهاليز الجغرافيا، وكوابيس النفوس.



الإشارة إلى مصنع الفوسفات، المُصوّر في لقطات عديدة بطريقة تجعله ماردًا يطلّ على البلدة بجبروت وتملّك وسطوة، تقول إنّ المكان موبوء بأمراضٍ تُضاف إلى أمراضٍ شتّى، فتُعالج أمباركة مُصابين بشتّى أنواعها ومصائبها الجسدية، هي التي تحتاج إلى علاجٍ روحي، كما يبدو لاحقًا؛ وتعكس خراب الروح وتعب الجسد أيضًا، إذْ ينبثق الخراب والتعب من جبروت المصنع نفسه، أو يتأتيان من قسوة العيش ومتاهة الحياة وانسداد الأفق. فالمكان/ البلدة مُهمَّش، اجتماعيًا واقتصاديًا وإنسانيًا وثقافيًا وحياتيًا، وتظهر معالم التهميش في أشكال العمارة والأزقّة والملابس والمقاهي وغيرها، وهي أشكال موغلة في الفقر والتمزّق والتوتّر، رغم هدوء ظاهرٍ، كذاك الذي يُسيطر، لدقائق، على بداية فيلمٍ، يغوص تدريجيًا في مسام روح ووعي، دافعًا إلى التأمّل في أحوال التهميش والمهمّشين.

لكن "أمباركة" يبقى شهادة سينمائية عن أناسٍ يواجهون أقدارهم بصمت أو غضب أو ارتباك أو نزق أو لامبالاة. يواجهون أيضًا يومياتهم، فيحاولون صُنع المستحيل من أجل خلاص معطّل أو ملتبس أو مؤجّل أو ملغى.
المساهمون