عند مشاهدة مختلف لقطات الفيديو الأصلي (17 دقيقة) للمجزرة التي وقعت يوم الجمعة في مسجدين في مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية، يجد المشاهد نفسه أمام نسخة مطابقة لما يدور في ألعاب الفيديو: صورة السلاح الذي يتصدّر الشاشة، تقدّم القاتل السريع، الدخول إلى مكان المعركة (المسجد في هذه الحالة)، وقتل المصلين، وصوت القاتل...
من البداية، كان السفاح الأسترالي برينتون هاريسون تارانت (28 سنة) يخطّط لجريمته بعناية، ويرسم سيناريو الفيديو، على أسس تجعل انتشاره سهلاً وسريعاً والتفاعل معه كبيراً. وهو ما حصل بالفعل، انتشر الفيديو مئات آلاف المرات على مختلف منصات التواصل: "فيسبوك"، و"تويتر"، و"ويوتيوب"، و"إنستغرام"... شاهده الملايين، قبل أنّ تبدأ الشركات المالكة لهذه المنصات بالتحرّك وحذفه بشكل تدريجي، وصولاً إلى اختفائه بشكل شبه تام ليل الجمعة ــ السبت.
طريقة تصوير الفيديو، جعلت الخلاصة الأولى (والأكثر سذاجة) للمجزرة تربط بين الجريمة وتأثير ألعاب الفيديو على لاعبيها، لجهة خلق سلوكيات عنيفة وعدائية تجاه المجتمع. وما أعطى هذه النظرية مصداقية وحيثية شعبية، هو تكريسها كمعلومة أكيدة لا كتحليل، بعد مختلف جرائم القتل الجماعي التي حصلت في العقدين الأخيرين.
المرّة الأولى التي بدأت فيها مناقشة هذا الموضوع بجدية كانت سنة 1999 بعد مجزرة ثانوية كولومباين الأميركية التي ارتكبتها طالبان، فقُتل 13 شخصاً في المدرسة بإطلاق النار عليهم. فور وقوع الجريمة خرجت آراء إعلامية كثيرة في الولايات المتحدة تربط بين الجريمة وإدمان الطالبَين إياهما على ألعاب الفيديو العنيفة. وهو ما دفع الرئيس الأميركي وقتها بيل كلينتون إلى الإيعاز بفتح تحقيق حول طبيعة الإعلانات التي تروّج لهذه الألعاب التي كانت في قمة انتشارها في العالم في تلك الفترة. قرار كلينتون جاء إثر رفع أسر الضحايا دعوى قضائية ضد 25 شركة مصنّعة لألعاب الفيديو، تحديداً لعبة Doom، إذ إن طريقة القتل في الثانوية، كانت مشابهة لما يحصل في هذه اللعبة.
تكررت هذه اللازمة بعد كل جريمة إطلاق نار في الثانويات الأميركية أو الأوروبية. في عام 2007، أعاد الجمهوري ميت رومني (كان وقتها حاكم ولاية ماساتشوستس)، بعد شهر واحد من قتل طالب مسلح 32 شخصًا في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا، القول بشكل واضح إن "المواد الإباحية والعنف" في الموسيقى والأفلام والتلفزيون وألعاب الفيديو هي السبب في المذبحة.
ليأتي بعد هؤلاء، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مكرساً الربط بين ألعاب الفيديو والتصرفات العنيفة. ففي عام 2012 (لم يكن رئيساً للولايات المتحدة وقتها)، قال في تغريدة إنّه يجب وقف ألعاب الفيديو العنيفة لأنها تخلق وحوشاً.
وأعاد ترامب التصريح عن الموضوع نفسه، وهو رئيس للجمهورية، بعد جريمة إطلاق النار في مدرسة في باركلاند (فلوريدا) في شهر فبراير/شباط 2018، معلناً أن ألعاب الفيديو قد تكون "تلعب دوراً في جرائم إطلاق النار في المدارس. لكن كلام ترامب هذا ككثير من تصريحاته مجرد انطباعات شخصية وخلاصات شعبوية، غير مبنية على أي دراسة علمية حقيقية.
فعند العودة إلى الدراسات العلمية الرصينة التي أجريت حول العلاقة بين ألعاب الفيديو العنيفة، وخلق سلوك عنيف أو إجرامي عند المراهقين والأفراد، يتبيّن أن هذه العلاقة غير موجودة بشكل حاسم. فآخر الدراسات الصادرة الشهر الماضي عن معهد أوكسفورد للإنترنت (تابع لجامعة أوكسفورد) تؤكد ألا علاقة بين ألعاب الفيديو والسلوك العنيف. وتعتبر هذه الدراسة واحدة من أكثر الدراسات دقة في هذا المجال، إذ إنها تستخدم مزيجاً من البيانات الشخصية وتلك العلمية والموضوعية لقياس عدائية المراهقين وعلاقتها بالعنف في الألعاب.
ورغم أنّ الدراسة أكدت أن ألعاب الفيديو هذه تخلق غضباً عند المراهقين، ما يولّد تخاطباً عنيفاً وتبادلاً للشتائم بين اللاعبين، لكن هذا الغضب لا يرتقي إلى خلق تصرفات جسدية عنيفة أو عدائية. يقول كبير الباحثين في "معهد أوكسفورد للإنترنت"، البروفيسور أندرو برزيبيلسكي، إن الربط بين ألعاب الفيديو والسلوكيات العنيفة "شائع في الأوساط الشعبية، لكن ذلك لم يخضع لاختبارات علمية حقيقية خلال كل هذه السنوات... ورغم اهتمام الأهل ومسؤولين تربويين وسياسيين بهذا الموضوع، إلا أن الدراسة التي أجريناها أثبتت ألا داعي للقلق".
اقــرأ أيضاً
وقبل هذه الدراسة بعام كامل، ومع ارتفاع اتهامات دونالد ترامب لصانعي ألعاب الفيديو بالتشجيع على العنف، نشرت دوريّة Molecular Psychiatry دراسة ألمانية أجرتها "جمعية ماكس بلانك" العلمية في برلين، طيلة شهرين على 77 مراهقاً. وقسمت الدراسة المراهقين إلى 3 مجموعات: الأولى تضمّ مراهقين يلعبون ألعاب فيديو عنيفة بشكل يومي ساعات طويلة طيلة يومين، الثانية تضمّ مراهقين يلعبون ألعاب فيديو سلمية خلال الفترة نفسها، والثالثة تضمّ مراهقين لا يلعبون أية ألعاب إطلاقاً. والنتيجة جاءت بتطابق سلوكيات الـ77 مراهقا بشكل شبه تام، وهو ما ينفي وجود تأثير لألعاب الفيديو بحسب الدراسة على سلوكيات المراهقين.
هذه الدراسات تقابلها نظريات أخرى ازدهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أبرزها نظرية الجراح الأميركي إيفيريت كوب الذي اعتبر سنة 1983 أن مشاهد العنف في ألعاب الفيديو سبب رئيسي للعنف العائلي. هذه النظرية أدت بعد 11 عاماً ومع ارتفاع معدلات العنف المقتبسة من ألعاب فيديو، إلى إصدار "مجلس تصنيف البرامج التعليمية" وهو نظام يساعد على تصنيف ألعاب الفيديو لدرجات العنف، وهو ما أدى تباعاً إلى تصنيف ألعاب الفيديو وفقًا للفئات العمرية.
وإن كان النقاش حول تأثير ألعاب الفيديو على السلوك العدائي وارتكاب الجرائم، لا يزال محطّ جدال معقّد، فإن مجزرة نيوزيلندا، تأخذنا إلى أماكن أبعد من تأثّر شابٍّ بالعنف الموجود في ألعاب إلكترونية؛ فالقاتل الأسترالي، صمّم جريمته لتناسب عصر الإنترنت ومواقع التواصل، والإخراج الفنيّ للفيديو لم يكن سوى وسيلة إضافية لانتشاره. ويبدو مذهلاً كيف نجح برينتون هاريسون تارانت في استغلال كل ما تقدّمه التقنيات الحديثة ليخدم جريمته وانتشارها: من البثّ المباشر على موقع فيسبوك"، إلى تصوير الفيديو على طريقة ألعاب الفيديو، ثمّ نشر مانيفستو" من عشرات الصفحات على موقع إلكتروني، وربطه بصفحته على "فيسبوك". ثمّ سرعة انتشار الفيديو، ومعها كل الكلام العنصري الذي قاله، حتى قبل أن تتمكّن إدارات مواقع التواصل من اكتشاف المجزرة. وبينما كان القاتل يصور جريمته ويتهيّأ لدخول المسجد، توقف لثوانٍ، وطلب من متابعيه الاشتراك في قناة اليوتيوبر الشهير "بيو داي باي" PewDiePie (واسمه الحقيقي فيليكس كيللبيرغ) على موقع "يوتيوب" (يملك 89 مليون مشترك).
من البداية، كان السفاح الأسترالي برينتون هاريسون تارانت (28 سنة) يخطّط لجريمته بعناية، ويرسم سيناريو الفيديو، على أسس تجعل انتشاره سهلاً وسريعاً والتفاعل معه كبيراً. وهو ما حصل بالفعل، انتشر الفيديو مئات آلاف المرات على مختلف منصات التواصل: "فيسبوك"، و"تويتر"، و"ويوتيوب"، و"إنستغرام"... شاهده الملايين، قبل أنّ تبدأ الشركات المالكة لهذه المنصات بالتحرّك وحذفه بشكل تدريجي، وصولاً إلى اختفائه بشكل شبه تام ليل الجمعة ــ السبت.
طريقة تصوير الفيديو، جعلت الخلاصة الأولى (والأكثر سذاجة) للمجزرة تربط بين الجريمة وتأثير ألعاب الفيديو على لاعبيها، لجهة خلق سلوكيات عنيفة وعدائية تجاه المجتمع. وما أعطى هذه النظرية مصداقية وحيثية شعبية، هو تكريسها كمعلومة أكيدة لا كتحليل، بعد مختلف جرائم القتل الجماعي التي حصلت في العقدين الأخيرين.
المرّة الأولى التي بدأت فيها مناقشة هذا الموضوع بجدية كانت سنة 1999 بعد مجزرة ثانوية كولومباين الأميركية التي ارتكبتها طالبان، فقُتل 13 شخصاً في المدرسة بإطلاق النار عليهم. فور وقوع الجريمة خرجت آراء إعلامية كثيرة في الولايات المتحدة تربط بين الجريمة وإدمان الطالبَين إياهما على ألعاب الفيديو العنيفة. وهو ما دفع الرئيس الأميركي وقتها بيل كلينتون إلى الإيعاز بفتح تحقيق حول طبيعة الإعلانات التي تروّج لهذه الألعاب التي كانت في قمة انتشارها في العالم في تلك الفترة. قرار كلينتون جاء إثر رفع أسر الضحايا دعوى قضائية ضد 25 شركة مصنّعة لألعاب الفيديو، تحديداً لعبة Doom، إذ إن طريقة القتل في الثانوية، كانت مشابهة لما يحصل في هذه اللعبة.
تكررت هذه اللازمة بعد كل جريمة إطلاق نار في الثانويات الأميركية أو الأوروبية. في عام 2007، أعاد الجمهوري ميت رومني (كان وقتها حاكم ولاية ماساتشوستس)، بعد شهر واحد من قتل طالب مسلح 32 شخصًا في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا، القول بشكل واضح إن "المواد الإباحية والعنف" في الموسيقى والأفلام والتلفزيون وألعاب الفيديو هي السبب في المذبحة.
ليأتي بعد هؤلاء، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مكرساً الربط بين ألعاب الفيديو والتصرفات العنيفة. ففي عام 2012 (لم يكن رئيساً للولايات المتحدة وقتها)، قال في تغريدة إنّه يجب وقف ألعاب الفيديو العنيفة لأنها تخلق وحوشاً.
وأعاد ترامب التصريح عن الموضوع نفسه، وهو رئيس للجمهورية، بعد جريمة إطلاق النار في مدرسة في باركلاند (فلوريدا) في شهر فبراير/شباط 2018، معلناً أن ألعاب الفيديو قد تكون "تلعب دوراً في جرائم إطلاق النار في المدارس. لكن كلام ترامب هذا ككثير من تصريحاته مجرد انطباعات شخصية وخلاصات شعبوية، غير مبنية على أي دراسة علمية حقيقية.
فعند العودة إلى الدراسات العلمية الرصينة التي أجريت حول العلاقة بين ألعاب الفيديو العنيفة، وخلق سلوك عنيف أو إجرامي عند المراهقين والأفراد، يتبيّن أن هذه العلاقة غير موجودة بشكل حاسم. فآخر الدراسات الصادرة الشهر الماضي عن معهد أوكسفورد للإنترنت (تابع لجامعة أوكسفورد) تؤكد ألا علاقة بين ألعاب الفيديو والسلوك العنيف. وتعتبر هذه الدراسة واحدة من أكثر الدراسات دقة في هذا المجال، إذ إنها تستخدم مزيجاً من البيانات الشخصية وتلك العلمية والموضوعية لقياس عدائية المراهقين وعلاقتها بالعنف في الألعاب.
ورغم أنّ الدراسة أكدت أن ألعاب الفيديو هذه تخلق غضباً عند المراهقين، ما يولّد تخاطباً عنيفاً وتبادلاً للشتائم بين اللاعبين، لكن هذا الغضب لا يرتقي إلى خلق تصرفات جسدية عنيفة أو عدائية. يقول كبير الباحثين في "معهد أوكسفورد للإنترنت"، البروفيسور أندرو برزيبيلسكي، إن الربط بين ألعاب الفيديو والسلوكيات العنيفة "شائع في الأوساط الشعبية، لكن ذلك لم يخضع لاختبارات علمية حقيقية خلال كل هذه السنوات... ورغم اهتمام الأهل ومسؤولين تربويين وسياسيين بهذا الموضوع، إلا أن الدراسة التي أجريناها أثبتت ألا داعي للقلق".
لكن، ما الذي يميز هذه الدراسة عن سابقتها ويجعلها أكثر دقة؟ يجيب برزيبيلسكي، قائلاً إن فريق البحث حاول تفادي أخطاء الدراسات السابقة، فلم يستخدم فقط شهادات المراهقين المدمنين على ألعاب الفيديو، بل وسّع نطاق دراسته ليشمل شهادات المراهقين، إلى جانب شهادات أهلهم وأساتذتهم في المدارس والجامعات لتقييم مستوى السلوك العدواني. كما أن تصنيف مستوى العنف في هذه الألعاب لم يعتمد على تقييم اللاعب المراهق لمستوى العنف في اللعبة، بل اعتمد معايير علمية وضعها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
أجريت الدراسة على 2800 شخص، بينهم مراهقون بريطانيون مدمنون على ألعاب الفيديو، إلى جانب أهلهم ومتابعيهم التربويين، الذين أجابوا جميعا عن عشرات الأسئلة حول تقييم السلوك العدائي للمراهقين وطريقة تجاوبهم مع العنف في ألعاب الفيديو.وقبل هذه الدراسة بعام كامل، ومع ارتفاع اتهامات دونالد ترامب لصانعي ألعاب الفيديو بالتشجيع على العنف، نشرت دوريّة Molecular Psychiatry دراسة ألمانية أجرتها "جمعية ماكس بلانك" العلمية في برلين، طيلة شهرين على 77 مراهقاً. وقسمت الدراسة المراهقين إلى 3 مجموعات: الأولى تضمّ مراهقين يلعبون ألعاب فيديو عنيفة بشكل يومي ساعات طويلة طيلة يومين، الثانية تضمّ مراهقين يلعبون ألعاب فيديو سلمية خلال الفترة نفسها، والثالثة تضمّ مراهقين لا يلعبون أية ألعاب إطلاقاً. والنتيجة جاءت بتطابق سلوكيات الـ77 مراهقا بشكل شبه تام، وهو ما ينفي وجود تأثير لألعاب الفيديو بحسب الدراسة على سلوكيات المراهقين.
هذه الدراسات تقابلها نظريات أخرى ازدهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أبرزها نظرية الجراح الأميركي إيفيريت كوب الذي اعتبر سنة 1983 أن مشاهد العنف في ألعاب الفيديو سبب رئيسي للعنف العائلي. هذه النظرية أدت بعد 11 عاماً ومع ارتفاع معدلات العنف المقتبسة من ألعاب فيديو، إلى إصدار "مجلس تصنيف البرامج التعليمية" وهو نظام يساعد على تصنيف ألعاب الفيديو لدرجات العنف، وهو ما أدى تباعاً إلى تصنيف ألعاب الفيديو وفقًا للفئات العمرية.
وإن كان النقاش حول تأثير ألعاب الفيديو على السلوك العدائي وارتكاب الجرائم، لا يزال محطّ جدال معقّد، فإن مجزرة نيوزيلندا، تأخذنا إلى أماكن أبعد من تأثّر شابٍّ بالعنف الموجود في ألعاب إلكترونية؛ فالقاتل الأسترالي، صمّم جريمته لتناسب عصر الإنترنت ومواقع التواصل، والإخراج الفنيّ للفيديو لم يكن سوى وسيلة إضافية لانتشاره. ويبدو مذهلاً كيف نجح برينتون هاريسون تارانت في استغلال كل ما تقدّمه التقنيات الحديثة ليخدم جريمته وانتشارها: من البثّ المباشر على موقع فيسبوك"، إلى تصوير الفيديو على طريقة ألعاب الفيديو، ثمّ نشر مانيفستو" من عشرات الصفحات على موقع إلكتروني، وربطه بصفحته على "فيسبوك". ثمّ سرعة انتشار الفيديو، ومعها كل الكلام العنصري الذي قاله، حتى قبل أن تتمكّن إدارات مواقع التواصل من اكتشاف المجزرة. وبينما كان القاتل يصور جريمته ويتهيّأ لدخول المسجد، توقف لثوانٍ، وطلب من متابعيه الاشتراك في قناة اليوتيوبر الشهير "بيو داي باي" PewDiePie (واسمه الحقيقي فيليكس كيللبيرغ) على موقع "يوتيوب" (يملك 89 مليون مشترك).