يصعب اختيار المدوّنة الفيلموغرافية المغاربية وتقييمها، أمام الحراك الفني الكمّي، الذي تشهده السينما العربية مؤخّراً، متجاوزة مرحلة البحث عن الذات، والتعبير عن مكنوناتها وتواريخها المحلية، ومعاينة قضايا وفضاءات أكبر، تتقاطع مع الذاكرة والتاريخ والجسد والتحرّر، وتلتقي في انطلاقها من الواقع العربي الجريح. فالسينما العربية فطنت مؤخّراً إلى ضرورة التعبير عن مواضيعها وعوالمها التخييلية، بدءاً من واقعها، من دون استعارة واقع آخر، فتلتقط الكاميرا مسام الجسد العربي، بشروخه وأعطابه وزلاّته وانكساراته أمام السلطة، وأمام أنظمتها السياسية القمعية، منذ بداية الربيع العربي أواخر عام 2010، بما تشهده من متغيّرات مهمّة في النسقين السياسي والاجتماعي العربيين.
السينما المغاربية تبدو اليوم كأنّها تُنزِل عنها عباءة النمودج الغربي وسلطته. فهي مُصابة بقهر التاريخ الساكن فيها، بحيث تتبدّى في صراعٍ دائمٍ مع الحداثة والتقليد، محاولةً اجتراح مشروع سينمائي، تنسلّ فيه الذات المبدعة من ربقة تقليد الآخر، الذي لا يزال يسكن بعض تجاربها، من دون تناسي الإشارة إلى تجارب مهمّة حقّقت حداثتها، مراهنة على مواضيع جديدة، ومعالحة سينمائية دقيقة، تنزّلت من خلالها منزلة رفيعة في كتابات نقدية، أو مهرجانات دولية، إنْ تعلق الأمر بالجزائر أو تونس أو المغرب.
تزداد الصعوبة ضراوة، مع مقاربة المنجز السينمائي في البلدان الـ3 تلك. فالرؤية الفنية مختلفة، والسياقات التاريخية متباينة، ما يطرح أسئلة تتعلّق أساساً بمعايير اختيار الجودة. لذا، تستكنه هذه القراءة خصوصيات المنجز السينمائيّ في كلّ بلد على حدة.
السينما المغربية: أزمة سيناريو
بات شائعاً في الكتابة النقدية أنّ أزمة السينما المغربية تكمن في السيناريو. هذا يؤكّده الواقع، بحكم أنّ السيناريو يشكّل العمود الأساسيّ، الذي ينبني الفيلم عليه، كتابةً أو رسوماً، كما عند ايزنشتاين، وبحكم الهوّة المخيفة بين الكتّاب والمخرجين السينمائيين، ما أسفر عن غياب كتّاب السيناريو، وإنْ وجدوا فغالبيتهم شعراء وروائيون ومسرحيون يطرقون باب السينما، رغم أن محاولات لهم تبدو متفاوتة النجاح، فكتابة السيناريو أساساً كتابة أدبية بامتياز.
لكن المشاكل التي تُصيب السينما المغربية اليوم لا ترتكز على السيناريو فقط، فعملية التخييل تساهم بشكل كبير في إفقار الفيلم فنياً وجمالياً، وتجعله مجرّد مَشاهد مسجّلة لا علاقة لها بالسينما وعوالمها التخييلية. مثلاً: "آدم" لمريم توزاني يحكي قصّة سامية (نسرين الراضي)، التي أقامت علاقة خارج الزواج أفضت إلى حملها، فتضطرّ إلى مغادرة بيئتها وعائلتها وهي حامل، فتجوب الأحياء الفقيرة في الدار البيضاء بحثاً عن عمل، وتلتقي الأرملة عبلة (لبنى أزابال)، التي ترفض صداقتها بسبب حملها، لكنها تقبلها في منزلها وعملها، متضامنة مع ألمها ومأساتها. يلتقط الفيلم وقائع مستوحاة من قاع المجتمع المغربي، لكنه لا يُركّبها في فضاءٍ متخيّل، تغدو معه العملية السينمائية عملية إبداعية، إذْ تكتفي توزاني بإعادة تشكيل الواقع، من دون المساهمة في تخييله، ما يجعل أنماط الصورة في "آدم" مطابقة للواقع.
مع ذلك، فـ"آدم" من أهم أفلام 2019، بسبب عناصر مهمّة فيه، خصوصاً أنّه يتطرّق إلى موضوع شائك ومربك للمجتمع والدولة معاً، بطرحه تساؤلات كثيرة عن مصير النساء العازبات في المغرب، وكيف أنّ المجتمع لا يقبلهم. فالأرملة والمطلقة "عاهرتان" في المخيال المغربي، لا تصلحان للزواج مجدّداً. بالتالي، فإنّ الفيلم ناجح في سبر أغوار مآسي المرأة في الدار البيضاء بدروبها الفقيرة والمهمّشة، وبمشاكلها الاجتماعية التي لا تنتهي.
عودة سهيل بن بركة إلى السينما متوّجة هذا العام بفيلمٍ تاريخي مُكلِف مادياً: "من رمل ونار... الحلم المستحيل". موضوع قوي، والشخصية المختارة مسكوتٌ عنها في تاريخ العلاقات الدولية بين المغرب وإسبانيا وإنكلترا، في القرن الـ18، وهي شخصية دومينيغو فرانشيسكو باديا، الملقّب بعلي باي العباسي، المُرسل إلى المغرب كجاسوس إسباني متنكّر بشخصية تاجر. لكن الفيلم مفكّك المَشاهد واللقطات، ويتعامل مع التاريخ بحسّ تمجيديّ مبالغ به إزاء الشخصية، في غياب التخييل والحبكة الدرامية. مَشاهد منه تغدو مجرّد معرفة تاريخية مسجّلة، رغم أنّه يضمّ ممثلين مغاربة وأجانب، كالإسباني رودولفو سانشو والإيطالية كارولينا كريسنتيني، وغيرهما.
اقــرأ أيضاً
مسألة الرفض والثورة على الأنظمة الاجتماعية والسياسية واضحة في السينما التونسية منذ عام 2011، بسبب تحوّلات جذرية تعرفها المنظومة التونسية، ما انعكس على السينما وعوالمها الإبداعية. فالحراك شكّل مادة دسمة لتجارب سينمائية استلهمت تفاصيل المرحلة الحرجة، كما في "مصطفى زاد" لنضال شطا.
اقــرأ أيضاً
هذا غير متعلّق بالجزائر فقط، بل بالمغرب أيضاً، حيث تتقوقع ذئاب حركات كهذه في جامعات مغربية منذ نهاية الثمانينيات الفائتة، بإيعازٍ من جهات رسمية.
فالتشدّد يطاول عقولاً شابّة، ولا يزال يجري لغاية الآن، ويحكمها منطق إقصاء التحرّر. هناك إطلاق للجسد والمخيّلة وتعبيراتهما المذهلة، لكن التاريخ، في المَشاهد كلّها في "بابيشا"، يظلّ يمارس سخريته من المجتمع والأفراد والمؤسّسات الرسمية، فيتبدّى فكرياً تاريخ السينما المغاربية من خلال "بابيشا"، كأنّه صراع دموي بين الحداثة والتقليد، فتقول السينما هي أيضاً كلمتها، من خلال ما لا يُرى وما لا يُقال، مستلهمة فضاءات وعوالم لتعرية المخبّأ وكشف المستور.
السينما المغاربية تبدو اليوم كأنّها تُنزِل عنها عباءة النمودج الغربي وسلطته. فهي مُصابة بقهر التاريخ الساكن فيها، بحيث تتبدّى في صراعٍ دائمٍ مع الحداثة والتقليد، محاولةً اجتراح مشروع سينمائي، تنسلّ فيه الذات المبدعة من ربقة تقليد الآخر، الذي لا يزال يسكن بعض تجاربها، من دون تناسي الإشارة إلى تجارب مهمّة حقّقت حداثتها، مراهنة على مواضيع جديدة، ومعالحة سينمائية دقيقة، تنزّلت من خلالها منزلة رفيعة في كتابات نقدية، أو مهرجانات دولية، إنْ تعلق الأمر بالجزائر أو تونس أو المغرب.
تزداد الصعوبة ضراوة، مع مقاربة المنجز السينمائي في البلدان الـ3 تلك. فالرؤية الفنية مختلفة، والسياقات التاريخية متباينة، ما يطرح أسئلة تتعلّق أساساً بمعايير اختيار الجودة. لذا، تستكنه هذه القراءة خصوصيات المنجز السينمائيّ في كلّ بلد على حدة.
السينما المغربية: أزمة سيناريو
بات شائعاً في الكتابة النقدية أنّ أزمة السينما المغربية تكمن في السيناريو. هذا يؤكّده الواقع، بحكم أنّ السيناريو يشكّل العمود الأساسيّ، الذي ينبني الفيلم عليه، كتابةً أو رسوماً، كما عند ايزنشتاين، وبحكم الهوّة المخيفة بين الكتّاب والمخرجين السينمائيين، ما أسفر عن غياب كتّاب السيناريو، وإنْ وجدوا فغالبيتهم شعراء وروائيون ومسرحيون يطرقون باب السينما، رغم أن محاولات لهم تبدو متفاوتة النجاح، فكتابة السيناريو أساساً كتابة أدبية بامتياز.
لكن المشاكل التي تُصيب السينما المغربية اليوم لا ترتكز على السيناريو فقط، فعملية التخييل تساهم بشكل كبير في إفقار الفيلم فنياً وجمالياً، وتجعله مجرّد مَشاهد مسجّلة لا علاقة لها بالسينما وعوالمها التخييلية. مثلاً: "آدم" لمريم توزاني يحكي قصّة سامية (نسرين الراضي)، التي أقامت علاقة خارج الزواج أفضت إلى حملها، فتضطرّ إلى مغادرة بيئتها وعائلتها وهي حامل، فتجوب الأحياء الفقيرة في الدار البيضاء بحثاً عن عمل، وتلتقي الأرملة عبلة (لبنى أزابال)، التي ترفض صداقتها بسبب حملها، لكنها تقبلها في منزلها وعملها، متضامنة مع ألمها ومأساتها. يلتقط الفيلم وقائع مستوحاة من قاع المجتمع المغربي، لكنه لا يُركّبها في فضاءٍ متخيّل، تغدو معه العملية السينمائية عملية إبداعية، إذْ تكتفي توزاني بإعادة تشكيل الواقع، من دون المساهمة في تخييله، ما يجعل أنماط الصورة في "آدم" مطابقة للواقع.
مع ذلك، فـ"آدم" من أهم أفلام 2019، بسبب عناصر مهمّة فيه، خصوصاً أنّه يتطرّق إلى موضوع شائك ومربك للمجتمع والدولة معاً، بطرحه تساؤلات كثيرة عن مصير النساء العازبات في المغرب، وكيف أنّ المجتمع لا يقبلهم. فالأرملة والمطلقة "عاهرتان" في المخيال المغربي، لا تصلحان للزواج مجدّداً. بالتالي، فإنّ الفيلم ناجح في سبر أغوار مآسي المرأة في الدار البيضاء بدروبها الفقيرة والمهمّشة، وبمشاكلها الاجتماعية التي لا تنتهي.
عودة سهيل بن بركة إلى السينما متوّجة هذا العام بفيلمٍ تاريخي مُكلِف مادياً: "من رمل ونار... الحلم المستحيل". موضوع قوي، والشخصية المختارة مسكوتٌ عنها في تاريخ العلاقات الدولية بين المغرب وإسبانيا وإنكلترا، في القرن الـ18، وهي شخصية دومينيغو فرانشيسكو باديا، الملقّب بعلي باي العباسي، المُرسل إلى المغرب كجاسوس إسباني متنكّر بشخصية تاجر. لكن الفيلم مفكّك المَشاهد واللقطات، ويتعامل مع التاريخ بحسّ تمجيديّ مبالغ به إزاء الشخصية، في غياب التخييل والحبكة الدرامية. مَشاهد منه تغدو مجرّد معرفة تاريخية مسجّلة، رغم أنّه يضمّ ممثلين مغاربة وأجانب، كالإسباني رودولفو سانشو والإيطالية كارولينا كريسنتيني، وغيرهما.
السينما التونسية: ثورة على الواقع
تؤكّد الأفلام المنتجة في تونس هذا العام على إعطاء حرية أكبر للجسد ولمتخيّله المكبوت، بينما تبدو السينما التونسية، في الأعوام الأخيرة، كأنّها تثور على معطيات واقعها. "حلم نورا" لهند بوجمعة تُبرز قضية الحبّ كموضوع أول يُشغل المخرجة، إذْ تحكي من خلاله قصّة نورا (هند صبري)، المنتمية إلى وسط شعبيّ، والمتزوجة من رجل يُسجن لفعل جرمي، ولديهما 3 أطفال. لكن نورا تحلم بحياة أفضل لها ولأبنائها. تتوالى الأحداث، وتتعرّف على رجل تُحبّه، ثم يخرج زوجها من السجن بعفو، فتتشابك الأحاسيس، ويمتزج الحب بالمرارة، وتقرّر الهرب. مسألة الرفض والثورة على الأنظمة الاجتماعية والسياسية واضحة في السينما التونسية منذ عام 2011، بسبب تحوّلات جذرية تعرفها المنظومة التونسية، ما انعكس على السينما وعوالمها الإبداعية. فالحراك شكّل مادة دسمة لتجارب سينمائية استلهمت تفاصيل المرحلة الحرجة، كما في "مصطفى زاد" لنضال شطا.
السينما الجزائرية: حضور طاغٍ للتاريخ
السينما الجزائرية مختلفة، فالتاريخ لا يزال يسري بقوة في مخرجي أفلامها، خصوصاً أنّ الهدف واضحٌ منذ مطلع القرن الـ20، بالنسبة إلى بناء مشروع وهوية وحركة تحرير وطني، فضلاً عن حرصهم الدؤوب منذ السبعينيات الفائتة، خصوصاً مع مرزاق علواش في "رجال ونوافذ" (1983) و"عمر قتلاتو الرجلة" (1976)، محاولاً عبرهما رصد الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع الجزائري، بجعله السينما مرآة التحوّلات، رغم جراح وهزّات أصابت المجتمع الجزائري بقوة. والسينما عنده حلم آسر، وهذا ما يُعايَن سنوياً في أفلام جزائرية ذات نفحة تمتزج فيها فتنة الحياة بمرارة العيش، ومجد التاريخ بسخرية الحاضر، كما في "بابيشا" لمونية مدور، أبرز أفلام 2019، الذي يروي قصّة بلدٍ في تسعينيات القرن الـ20، من خلال طالبة شابّة، ترصد بمرارة بوادر اجتياح التشدّد والظلامية اللذين حاولت حركات إسلامية فرضه في الجامعة الجزائرية، وما رافق ذلك من تشنّج وإرتباك في طلبة الجيل الجديد.هذا غير متعلّق بالجزائر فقط، بل بالمغرب أيضاً، حيث تتقوقع ذئاب حركات كهذه في جامعات مغربية منذ نهاية الثمانينيات الفائتة، بإيعازٍ من جهات رسمية.
فالتشدّد يطاول عقولاً شابّة، ولا يزال يجري لغاية الآن، ويحكمها منطق إقصاء التحرّر. هناك إطلاق للجسد والمخيّلة وتعبيراتهما المذهلة، لكن التاريخ، في المَشاهد كلّها في "بابيشا"، يظلّ يمارس سخريته من المجتمع والأفراد والمؤسّسات الرسمية، فيتبدّى فكرياً تاريخ السينما المغاربية من خلال "بابيشا"، كأنّه صراع دموي بين الحداثة والتقليد، فتقول السينما هي أيضاً كلمتها، من خلال ما لا يُرى وما لا يُقال، مستلهمة فضاءات وعوالم لتعرية المخبّأ وكشف المستور.