فاضل مهووس بفكرة السينما الخالصة المنبثقة، خاصة، من سينما روبير بروسّون ومؤلَّفه - المانفستو "مذكّرات حول السينماتوغراف"، التي تلغي الحدود بين الوثائقي والروائي، معتبرة، بحسب جان ـ لوك غودار، أنّ الأفلام الروائية الكبيرة تنحو إلى الوثائقية، كما أن الأفلام الوثائقية الكبرى تنحو إلى الروائية.
فيلمه الروائي الأخير "يارا" (2018) قصيدة شعر، تتلمّس تفاصيل الحياة عبر الالتصاق بإيقاع قرية لبنانية، والقبض على أرواح وأشياء طواها الرحيل أو التلاشي، ما يذكّر بحساسية أفلام الواقعية الإيطالية، كـ"سفر في إيطاليا" (1954) لروبيرتو روسيليني، بالإضافة إلى أداء مقتصد ومكبوح للشخصيات، يعكس مرّة أخرى تأثّرا لا تخطئه عين العارف بالمدرسة البروسّونية. تجذّر صادق ومؤثّر في تربة السينما الحقّة، يعاكس بجرأة بالغة تيّار السينما المهيمنة، المبنيّ على سرعة الإيقاع وسلطة الحبكة.
شارك "يارا" في الدورة الثانية (18 – 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان الفيلم العربي" في الدار البيضاء، وفاز بالجائزة الكبرى، بجدارة.
بهذه المناسبة، التقت "العربي الجديد" عباس فاضل في حوار عن سيرته وسينماه.
لنبدأ بسؤال حول "سينفيليتك". كيف بدأت علاقتك بالسينما؟
ولدتُ في بابل، على بُعد 100 كم جنوب بغداد. كان والدي عاشق أفلام، بالمعنى الشعبي للكلمة. أيّ أنّه كان يذهب إلى السينما كثيرا. كان يبيع فطائر حلوة ومالحة أمام 3 صالات سينمائية، يركن أمامها عربته لجذب الزبائن. كنتُ أنضمّ إليه بعد انتهاء دوام المدرسة. وعندما ينتهي من العمل، نذهب معا لمشاهدة فيلم "وسترن سباغيتي"، أو فيلم ملحمة، أو هندي، أو كوميديا موسيقية مصرية. حتّى قبل ذهابي إلى المدرسة، كنتُ أتوجّه إلى صالة السينما مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا، على الأقلّ. عندما بلغتُ 15 عاما، علمتُ أن هناك وظيفة تسمّى مخرجا سينمائيا. عندها، أردتُ أن أصبح مخرجا. حصلتُ على شهادة البكالوريا في العراق، وقررتُ الذهاب إلى فرنسا، لإكمال دراستي.
كيف جاء قرار الذهاب إلى فرنسا لدراسة السينما، خصوصا مع والديك؟ أتخيّل أنّ الأمر كان صعبا.
صعبٌ جدا. عندما بلغتُ 15 عاما، وقرّرتُ أن أصبح مخرجا، ولأنْ لا مدرسة سينما في العراق، قلتُ لوالديّ: "بعد البكالوريا، سأدرس السينما في الخارج". سخرا منّي، خصوصا أنّ العراقيين لم يعتادوا السفر إلى الخارج، آنذاك. قلّة منهم لديها جواز سفر، فما بالك بي، أنا المتحدّر من عائلة فقيرة؟ للذهاب من بابل إلى بغداد، كنتُ أجد المال بصعوبة لأستقلّ الحافلة. لذلك، قيل لي: "نعم، نعم. حسنا" (يضحك). لكنّي تمكّنت من الحصول على جواز السفر، ثم أخبرت عائلتي. عندما سمع أبي ذلك، غضب منّي. أما والدتي، ولأنّي كنتُ المفضّل عندها، وكانت تحبّني كثيرا، ساعدتني. أتذكّر أنّها منحتني 200 دينار عراقي للسفر. وبما أنّ أبي قرّر ألاّ يتحدّث معي، غادرتُ العراق من دون موافقته. كان خائفا عليّ فعلا. كان يقول لي: "سوف تموت من الجوع"، لأنّه لا يستطيع تحمل عبء مساعدتي ماليا، وهو يشعر بالمسؤولية تجاهي.
حينها، كان عمري 18 عاما، لكنّي كنتُ أبدو كفتى يبلغ 15 عاما. وبما أن العراقيين ليسوا شعبا يسافر، لم أكن معتادا على الاتصال بالأجانب، ولم أكن أتقن كلمة فرنسية واحدة. قلق أبي كان مشروعا. لكنّي كنتُ شغوفا وغير واعٍ في الوقت نفسه. لذلك، قرّرتُ المغادرة.
لماذا اخترتَ فرنسا، علمًا أنّ العراق متأثّر بالثقافة الإنكليزية؟
كنتُ مهتما بالسينما منذ بلوغي 15 عاما، فبدأتُ القراءة عنها. في كل مكان، كان الحديث عن "الموجة الفرنسية الجديدة". كانت باريس بمثابة مكة لرواد السينما. وأيضا، حدث أنْ شاهدت فيلما فرنسيا في "المعهد الفرنسي" في بغداد. يومها، دعاني صديق لي من بابل، كان يدرس الفنون الجميلة في بغداد، إلى مشاهدة فيلم لفرنسوا تروفو يعرض هناك. ركبنا الحافلة. كان هذا جديدا أيضا: السفر من مدينة إلى أخرى لمُشاهدة فيلم. كان الوقت صيفا، والعرض ليلا في حديقة المعهد. أتذكّر أنّهم علّقوا الشاشة على الشرفة، وأنّنا جلسنا على كراسي الحديقة، في ليلة من الليالي الجميلة في بغداد، والسماء مرصّعة بالنجوم.
فيلم تروفو، "جول وجيم"، لم يكن مترجما. لكن، رغم ذلك، أعجبني كثيرا. أحببتُ كلّ شيء، خاصة اللغة الفرنسية وموسيقيّتها. افتُتنتُ بجانّ مورو. قلتُ لنفسي أنّي سأسافر إلى فرنسا لدراسة السينما، وتعلّم اللغة الفرنسية، وربما لقاء مورو. بعد ذلك بأعوام، شارك فيلمي الروائي الأول "فجر العالم" في "مهرجان آميان"، الذي كانت عرّابته مورو نفسها. جلستُ معها كما أجلس معك الآن، في قاعة في الفندق. قلتُ لها: "سيدة مورو، هل تعلمين؟ أتيتُ إلى فرنسا بسببك" (يضحك). أخبرتها القصّة، فسألتني إنْ لم أندم على المجيء، فأجبتها: "أبدا".
وكيف كان اتصالك بعالم السينما الفرنسية وعشّاقها؟ لأننا دائما نتخيّل شيئا ونجد شيئا آخر.
كنتُ محظوظا بما فيه الكفاية للوصول إلى فرنسا في العصر الذهبي للـ"سينفيليا". كان ذلك مباشرة بعد فترة الحماسة الموالية لـ"مايو 68"، في "جامعة باريس 3 ـ السوربون الجديدة"، وهي كلية تقدّمية ومفتوحة. كان مُدرّسي سيرج دانِيه، رئيس تحرير مجلة "دفاتر السينما" آنذاك. كان كاتبا حقيقيا في السينما. بالنسبة إليّ، ربما يكون أعظم كاتب في تاريخ السينما.
أنا أيضا أعتبره كذلك، مع أندريه بازان.
بازان هو المعلّم الكبير. لكن، لنقل إنّه أكثر أكاديمية. سيرج دانِيه مختلف. اكتشفتُ مخرجين مهمّشين كثيرين حينها بفضله. لديه طريقة تدريس مُفيدة جدا، تقضي بعدم تدخله تقريبا، مكتفيا بعرض أفلام لمارغريت دوراس وجان - لوك غودار وستروب وساتياجيت راي، وأفلام من أميركا اللاتينية، ويدعنا نناقشها. لم يكن لديه موقف المعلّم العارف بكلّ شيء، ولم يتظاهر بامتلاك الحقيقة المقدّسة. كان يُمكننا أن نتحدّاه، بل كان يحبّذ ذلك. كنا أحرارا في التحرّك في غرفة الصفّ، وتغيير أماكن جلوسنا. كان هذا مُثيرا حقا بالنسبة إلى عراقيّ، اعتاد الضرب على الأصابع من أساتذته. بعدها، حصلت على الإجازة، وأردتُ أنْ أواصل تعميق معرفتي عن طريق الدكتوراه، فذهبت إلى "جامعة السوربون 1"، الأصلية. هناك، كان يوجد مدرّسون أمثال إيريك رومِر وجان روش، اللذين تعلّمت منهما الكثير.
هل شاهدت أفلام رومِر قبل أن تعرفه كمدرّس؟
لا أبدا.
وكيف كان "البروفيسور رومِر"؟
هو الذي طبعني بشكل أقلّ كمعلّم، لأنه كان أكاديميا للغاية. دانِيه ثوري. حينها، كانت الكاميرات بحجم 16 مم. لقّننا روش كيفية التصوير عن طريق التنفّس من البطن، كي لا ترتعش اليد. علّمنا كيفية التصوير وتسجيل الصوت في الوقت نفسه. هذا مفيد جدا لي، لأنّي تابعت في الاشتغال بهذه الطريقة. أصوّر أفلامي بنفسي، مع شخص واحد فقط يلتقط الصوت. علّمنا روش كيفية العمل مع فريق صغير، بكاميرا محمولة على الكتف.
كما شاهدتَ في "يارا"، أفلامي كلّها مُصوّرة بكاميرا محمولة على الكتف. لكن، لا توجد صورة واحدة تهتزّ. "وطن: العراق سنة صفر" كذلك، وفيلمي الجديد "حقّ الخبزات".
كيف اخترت الفيلم الوثائقي لبدء حياتك المهنية؟ أهو قرار مدروس، أم صدفة؟
إنّها قوة الأشياء، نوعا ما. عندما جئتُ إلى فرنسا، كانت السينما بالنسبة إليّ هي الروائية، بينما ارتبط الوثائقيّ في ذهني بالتلفزيون والتقارير. لكن، بفضل أساتذتي في الجامعة، اكتشفتُ أن الوثائقيّ هو، في الواقع، سينما، خاصة مع الفيلم الوثائقي في أميركا اللاتينية. في ذلك الوقت، كانت سينما أميركا الجنوبية إحدى أكثر السينمات تقدّما، رسميا وفكريا وسياسيا. اكتشفتُ أفلاما كثيرة، تبلغ مدّة الواحد منها، أحيانا، 4 أو 5 ساعات. وجدتُ نفسي فيها، لأنّ لأميركا اللاتينية أشياء كثيرة مشتركة مع العالم العربي. نحن نعاني الأمراض نفسها، كالديكتاتورية والفقر. هكذا فتحتُ عينيّ، وقلتُ لنفسي إنّه عليّ أن أفعل الشيء نفسه، فقرّرتُ العودة إلى العراق، مع كاميرا، لإنجاز فيلم وثائقيّ.
ما أذهلني في "الرجوع إلى بابل"، هو نغمة الحرية التي تنبعث من أسلوبه. حتى التعليق، الذي لا أحبّه عادة، أحببته في هذا الفيلم.
أنا لم أحبّه في الواقع. أقول لك هذا بصراحة. كان فيلما للتلفزيون الفرنسي. لذلك، كانت هناك قيود: فيلم مدّته 52 دقيقة، حيث تُعيَّر برامج التلفزيونات في ساعة واحدة، ما يترك لهم 8 دقائق للإعلانات، وإشهار البرامج، إلخ. الإنتاج فرض صوت الراوي، لاعتقاده أن الجمهور محتاج إلى صوت يشرح له. أنا ضد هذا. مثلا، تبلغ مدّة "وطن..." 5 ساعات ونصف الساعة، من دون أيّ صوت أو أي تفسير، ولم يمنع هذا الجمهورَ من فهمه. المشكلة مع التلفزيون أنّه يعتقد أن الجمهور غبي، وأن انتباهه مشتّت بحكم المُشاهدة في المنزل، وأنّه ينبغي أنْ يتاح له فهم ما يجري من دون النظر إلى الشاشة. هذا سبب فرضهم صوت الراوي. رغم كل شيء، حاولتُ كتابة نص شعري، للتغلّب على ذلك.
بالتأكيد، هذا ما قصدته، دفاعا عن التعليق الصوتي. النص رائع للغاية. كتب أحدهم أنّ النص، حين يقرأه شخص آخر، يخلق نوعا من الازدواجية، مع وجودك في الصورة، ما أعطى نوعا من السُّمْك للفيلم. أتذكّر ذلك المشهد الجميل، عندما تأتي إحدى الشخصيات لتسلّم عليك، فتمرّ خلف الكاميرا.
نعم. كان هذا في مشهد العودة إلى مدرسة طفولتي.
بالعودة إلى مسألة التعليق الصوتي، وجد المنتجون أنّ لديّ لكنة في تَحدّثي بالفرنسية، وكانوا خائفين من أن يشوّش هذا على المُشاهدين، فجاؤوا بصوت أحد الممثلين. لكن، كما تقول، لعل الصوت المختلف يخلق نوعا من مسافة، كانت لصالح الفيلم. لكن، رغم قول هذا، أنا لا أتبرّأ من الفيلم. في فيلمي التالي له، "نحن، العراقيون"، هناك شيءٌ من النمط نفسه الخاصّ بـ"عودة إلى بابل". التلفزيون الفرنسي أحبّ هذا الأخير، فطلب مني إنجاز التتمة. هذا ما فعلته. لكن الآن، بعد "وطن..."، الذي أنجزتُه كما أردتُ بالضبط، أصبحَتْ لدي صعوبة في مشاهدة هذين الفيلمين مرة أخرى.
في ما يتعلق بهذا، لاحظت أنّ كلّ فيلم من أفلامك يمهّد للفيلم الموالي له. أي أنّ "عودة إلى بابل" يُقدّم "نحن العراقيون"، الذين يمهّد بدوره لـ"وطن...". بالطريقة نفسها، فإنّ "فجر العالم" يُبشّر بـ" يارا ". كأنّنا في نوع من التطرّف الفنّي التدريجي.
هذا صحيح تمامًا.
هذا شيء واعٍ من طرفك؟
نعم، مع أنّ هناك شيئا من اللاوعي فيه، لأننا نصنع الفيلم نفسه دائما، في الواقع. يبحث الرسّام عن اللوحة المثالية من خلال طلاء الأشكال نفسها في العمق. هذا يعني، كما تقول، أنّ "نحن العراقيون" ولد من رحم "عودة إلى بابل". الجملة الأخيرة في هذا الأخير، تقول كما في التعليق الصوتي: "والآن أعتقد للمرّة الأولى: نحن العراقيون". بمعنى آخر، شعرتُ أخيرا بأنّي عراقي مجدّدا في تلك اللحظة. بعد أن عشتُ فترة طويلة في فرنسا، بعيدا عن وطني، عدتُ إلى حياتي الأصلية. حين كنتُ محاطا بالأشخاص الذين نراهم في الفيلم، شعرتُ مرّة أخرى بعراقيتي، فقلتُ للمرّة الأولى: "نحن العراقيون". هذه الجملة تمخّض عنها الفيلم التالي. وكما قلتَ، فإنّ لـ"فجر العالم" و"يارا" الشخصيات نفسها في العمق. الفرق كامنٌ في أنّ الأول يحدث في بيئة مائية، والثاني وسط الجبال.
فاز سيناريو "فجر العالم" بكلّ شيء، حتّى قبل أن يُصوّر.
نعم. هذا سمح لي بتصويره.
مع نجاح نصّ "فجر العالم"، يبدو الأمر كأنّك تخلّصتَ نهائيا من قيود سينما الحبكة، فتمكّنتَ من الذهاب إلى سينما أكثر حسّية، كالرسّامين الذين يبدأون بلمس البراعة في اللوحات الواقعية، كي يكونوا قادرين على طرق أبواب التجريد.
بالضّبط. مع "يارا" مثلا، لم يكن هناك سيناريو. اليوم، لا أستطيع الاشتغال مرورا بكتابة سيناريو. الواقع دائما أكثر ثراءً ممّا نتخيّل. منذ لحظة كتابتي سيناريو "فجر العالم"، فزتُ بجوائز أتاحت لي الحصول على تمويل مريح، بسهولة إلى حدّ ما. لكنّ المقابل كان أنّ أحترم ما هو مكتوب في السيناريو بحذافيره. عندما تُمنح مالا على أساس سيناريو، لا يمكنك التغيير فيه أبدا. لكنّي اليوم، عندما أصوّر، أرغب دائما في التغيير. أصل صباحا لتصوير مشهد، فأقرأ ما كتبته، ثم أقول لنفسي: "لم أتصوّر الأمر هكذا. يمكنني القيام بعمل أفضل، والتغيير هنا وهناك". لكن، للأسف، لا يمكنك فعل ذلك في نمط الاشتغال الكلاسيكي، لأنّ كلّ شيء يكون مُعِدّا سلفا، وفقا لما هو مكتوب، لا سيما أنّ بين الكتابة والتصوير، تمرّ 4 أعوام غالبا.
بالنسبة إلى "يارا"، ارتجلنا يوما بعد يوم. كنّا نعيش في المزرعة التي صوّرنا فيها. في الصباح نستيقظ، نتناول الفطور مع الممثّلين. ووفقا للطقس أو الضوء المتوفّر، أو وجود الأشخاص المعنيين أو عدم وجودهم، نقرّر المشهد الذي سنصوّر. أثناء المونتاج، تمّ بناء القصّة.
موضوع آخر يتكرّر في أفلامك، ويتمثّل بالسؤال التالي: "ماذا كان سيحدث لو...؟". في "عودة إلى بابل" مثلا، تسأل نفسك: "ماذا كان سيحدث لي لو بقيتُ في العراق؟".
مع "يارا"، السؤال هو: "كيف سيكون الأمر إذا قرّر الياس البقاء، بدلا من الهجرة إلى أستراليا. أو إذا وافقَتْ يارا على الذهاب معه". لكن، هذه هي الحياة اليومية. نفكّر دائما في هذا النوع من الأسئلة. الآن، أنا أعيش في لبنان. ماذا كان سيحدث لو لم أستقرّ في لبنان؟ هل تعرف فيلم كيشلوفسكي "الصّدفة"؟
نعم، مع المشهد المتكرّر للقطار.
تماما. إنّها القصّة نفسها. كلّ مرة، نكتشف ما كان سيحدث لو استطاع البطل اللّحاق بالقطار، أو لو فاته ذلك.