ينتمي المخرج اللبناني نديم حبيقة إلى موجة جديدة، ظهرت على الساحة السينمائية العربية بأعمال تبدو كأنّها تلقائية. هاجس التعبير عن القلق ومشاغل الحياة اليومية، بأفراحها وأحزانها، أهمّ بالنسبة إليه من المواضيع الاجتماعية والسياسية، كرؤية لتغيير العالم والتعبير بطلاقة عمّا يشغل كيانه.
هذا بعض ما عاينه في "قبل أن نشفى"، المعروض في الدورة الـ17 (30 سبتمبر/ أيلول ـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان الفيلم المتوسطي القصير بطنجة" (المغرب): يزور سليم صديقته ريا في منزلها. يدخل الحمّام، لكن قفل الباب ينكسر، فيعلق داخل الحمّام. تحاول ريا، التي تسخر من المشهد، إخراجه، لكنها تفشل. تتشعبّ الأمور بينهما، فيسترجعان معاً ذكريات مؤلمة محورها طبيعة العلاقة بينهما، وما ينبغي أن تكون عليه.
عن الفيلم وعوالمه الفنية والتخييلية، وعن أشرطة الـ"فيديو كليب" التي أنجزها، أجرت "العربي الجديد" هذا الحوار مع نديم حبيقة:
* درستَ الإخراج السينمائي وصناعة الأفلام في "جامعة القديس يوسف" في بيروت، ثم في أميركا. لماذا هذا الحرص على دراسة السينما خارج لبنان، علماً أنّ في هذا البلد أكاديميات ومدارس تهتمّ بالسمعي البصري؟ أم أنّ لك مشروعاً آخر لا يتوافق مع سياستها؟
- تخرّجتُ عام 2014، ثم انتقلتُ إلى أميركا ودرستُ 8 أشهر في نيويورك. السبب شخصي أكثر منه أكاديمياً. في هذا العمر، أردتُ اكتشاف أميركا، وفي الوقت نفسه تطوير تجربتي ورؤيتي في الإخراج. لم أتابع ماجيستير أو ليسانس، فقط دروس في الجامعة. كثيرون في نيويورك فوجئوا بجودة التعليم في لبنان. لذا، أنا سعيدٌ بخوض تجربة السفر إلى نيويورك لتطوير ذاتي كمخرج.
* إلى جانب تجربتك الثانية في الإخراج السينمائي، أخرجت "فيديو كليبات" لـ"فرقة أدونيس" اللبنانية وغيرها. ما الهاجس العملي والفني الذي جعلك تهتم بالشأن الموسيقي؟
- أحبّ السينما كثيراً، وطموحي الوحيد في الحياة هو الإخراج السينمائي. الـ"كليبات" عالم بحدّ ذاته، هي والسينما تعبيرٌ عن النفس، وأشياء أريد قولها. الفيلم يتضمّن ممثلين وحوارات، أما الـ"فيديوهات" الموسيقية فتتضمّن موسيقى، نركّب عليها مَشاهد. أنجزت أكثر من 5 فيديوهات لـ"فرقة أدونيس"، لكن لا شيء جعلني أهتم بذلك. لأنّي مغرمٌ بالموسيقى، أعبّر عن نفسي بحرية في الـ"فيديوهات" الموسيقية، فرغم قصر مدّتها، أستطيع قول أشياء كثيرة، إذْ تسمح لي بتجريب أشياء بالكاميرا، وتقنياً أيضاً، خصوصاً الأشياء القريبة من السينما، أي أنْ تكون الـ"فيديو كليبات" أشبه بالقصة. لذا، أحاول خلق لغة جديدة خاصة، لأنّ كثيرين ينظرون إليها كأنّها مبتذلة، مع أنّها فنّ كغيره من الفنون. عربياً، هناك "كليبات" جيدة، تقترب في مهنيّتها من السينما. لذا، هي تفيدني في تطوير لغتي الفنية كمخرج.
* ماذا عن تجربتك كمساعد مخرج في أفلام أحمد غصين وكريم رحباني ونديم تابت؟
- هذه مرحلة ما بعد التخرّج. اشتغلتُ مساعد مخرج، وهذا مفيد لي للتعرّف إلى المجال السينمائي، إذْ تستطيع أن ترى كيف يُصنع الفيلم ويُركّب، رغم غموض هذا الإحساس، خاصة بالنسبة إليّ كمخرج، فأنا لم أستطع التدخّل دائماً لتغيير مَشاهد، وللمساهمة في صنع الأفلام. تجربة "المخرج المساعد" تُركّز على اللوجستيّ وضبط الفيلم وتنسيقه، من دون المساهمة في خلقه. لكن، هناك مخرجون يتيحون إمكانية التدخّل والمساهمة في تطوير الفيلم، باستماعهم إلى رأيك. لذا، هذه المرحلة مهمّة لي كمخرج، لأنّي تعلّمت فيها الكثير، خصوصاً أنّ الأفلام التي اشتركتُ فيها عُرضَت في مهرجانات عالمية.
* فيلمك الأخير "قبل أن نشفى" عُرض مؤخّراً في "مهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة" (2019)، رغم أنّه بدأ حياته الحقيقية عام 2018، بعد عامٍ على تصويره (2017). ما أسباب تأخّر عرض الفيلم في مهرجانات لبنانية ودولية وعربية؟
- لا يوجد سبب، لكن مرحلة ما بعد التصوير استغرقت وقتاً طويلاً. ثم إنّ القرار مرتبطٌ بشركة التوزيع في مصر، لأنّ الفيلم جاهزٌ منذ نهاية 2017، وانتظرنا حتى 2018 للمشاركة في مهرجانات مختلفة. المسألة لوجيستية أكثر منها قراراً.
* الموضوع بسيط، كالمعالجة الفنية: الغوص في العلاقات الحميمة بين أبناء الجيل الجديد. لماذا هذا الموضوع بالضبط، لا الذاكرة أو التاريخ أو جحيم الواقع، كأعمال مخرجين سينمائيين آخرين من جيلك؟
- سؤال مهم، فكّرت فيه مراراً، خصوصاً أنّي مهتمّ ببلدي وتاريخه، وبالثورة التي عرفها مؤخّراً، وبالقضايا الاجتماعية. لكن الأفلام التي أحبّها، والأفكار التي أرغب في تطويرها وبلورتها، يجب أنْ تشبهني وأنْ تنبع منّي. موضوع العلاقات بين الناس يُشغل تفكيري، خصوصاً أنّ السينما كيان علاقات بين الناس والعالم. صحيح أنّه ينبغي إدراج الفيلم في مواضيع اجتماعية، لكن قصّته تدور في فضاء مغلق. مواضيع كهذه ليست أولوية عندي، لتفضيلي الكلام عمّا أحسّ. لهذا نصيبٌ في مهرجانات، تحكي أفلامٌ كثيرة فيها عن مجتمع وقضايا وتاريخ وذاكرة، أي أنّها تمثّل مجتمعها المولودة فيه. مهرجانات أخرى عكس ذلك. أفلام لي اعتُبرت جيدة أحياناً، لتطرّقها إلى علاقات الصداقة والحبّ والعائلة، باعتبارها مواضيع كونية لا ترتبط بسياق محدّد أو ببلد معيّن.
* ما الصعوبات التي واجهتك لحظة الكتابة، ثم أثناء الإعداد والتصوير والمونتاج؟
- لم تكن لحظة الكتابة صعبة، فجزء كبير من الفيلم حقيقي وشخصي. كتابته سريعة، لأنّي أعرف ما أريد وأين تنتهي القصّة، وكيف تتطوّر الشخصيات. الأصعب كامن في اللغة، وكيفية استيعابها، فلبنان يمزج في كلامه بين العربي والإنكليزي. الأجمل عندي هو التصوير، لكن الصعوبة في كيفية إيجاد لغة سينمائية معينة، وكاميرا معينة، لأصوّر 15 دقيقة من دون أنْ يملّ المُشاهد، بل أنْ يهتمّ بثنائي الفيلم. زوايا التصوير وطريقة الكلام وتركيز الكاميرا على شخصية واحدة، كلّها مدروسة، لذا كان التصوير ممتعاً، خصوصاً أنّ الممثلة يمنى مروان تدخّلت أحياناً في كتابة النص. كلما أردت مشهداً، عدت إلى الذاكرة، بأفراحها وأوجاعها. أحسّ بها وأصوّرها. المونتاج هو الأصعب. هناك اشتغالات حول إمكانية جعل مدّة الفيلم مذهلة بالنسبة إلى المُشاهد، وبسبب ناتالي ربيز، حقّقتُ أشياء جيّدة جداً، لتغييرها أشياء كثيرة، وهذا أعجبني لأنّ الفيلم لا يطبقّ رؤيتي فقط، بل يُطوّرها. الصعوبة أنّي أصوّر في مكان واحد، وأبحث عن التمثيل الأجمل والصوت الأرفع والموسيقى الأكثر جذباً، التي تليق بالمشهد. فأنا محكومٌ بمكان وزمان ضيقين. توليف 15 دقيقة تطلّب نحو 3 أشهر بسبب الاختيارات الدقيقة التي وجدتُ نفسي أمامها. ألغيتُ مشاهد طويلة كثيرة.
* قصّة الفيلم حقيقية، إنْ حدثت معك أو مع غيرك. كيف استطعت التقاط هذه الشذرات اليومية من عالم واقعيّ صغير، محوّلاً إياها إلى منجز بصري بـ15 دقيقة، علماً أنّ الفكرة تبدو غامضة لمن يشاهده أول مرة؟
- عشتُ هذا شخصياً، فاقتبست مما عشته، ومن علاقات أخرى أيضاً. الأهمّ هو الإحساس بشيءٍ، وإذا حدث عكسه تكون شخصياتي غير مؤثّرة. إذا أحسستَ أنتَ بالفيلم، أكون ناجحاً في تحقيقه. ليس هدفي تغيير العالم، أو تقديم لبنان معيّن. الأهمّ أنْ يكون عزاءً للّذين عاشوا تجارب معينة. جميعنا نحبّ ونتألّم في آنٍ واحد. أكيد أنّ أيّ مُشاهد سيتذكّر علاقة ما عاشها أو لا يزال يعيشها، فرحاً أو حزناً.
* كيف أثّرت "ثورة 17 أكتوبر" 2019 عليك كشاب لبناني؟ وما هي الآفاق الفنية التي رسمتها لك كمخرج؟
ـ "ثورة 17 أكتوبر" اللبنانية مذهلة وسلمية، وبالتأكيد ستنتج إنجازات سينمائية مهمّة لاحقاً. قلبت المعايير والمقاييس، ووضعت أشياء كثيرة على الطاولة لفحصها ونقدها. كنا في الشوارع، وتواصل الناس معنا من كلّ بلدان العالم. لم أرغب في الركوب على الثورة بإنجاز فيلم. لكنّها أثّرت كثيراً عليّ. الأمر يسيطر على تفكيري.