المليونيريّة: ثقافة النجاة بالذات

07 نوفمبر 2019
مارك زوكربرغ التحكم في نتائج الانتخابات (جوش إدلسون/فرانس برس)
+ الخط -
يزداد عدد المليونيرية في العالم كل يوم، ولا نتحدث فقط عن العشرة الأوائل أصحاب المليارات كـ جيف بيزوس، وبيل غيتس، ووارين بافيت، ومارك زوكربرغ، الذين يتنافسون على ترتيب الأغنى في العالم، بل عن المئات ممن لا يظهرون بوضوح على القائمة، ويقدّمون أنفسهم كـ فيلانثروبيست philanthropist، أي محبين للناس، يدفعون النقود لمشاريع تنموية وإنسانيّة، لـ"رد الدين للبشر" ولتحسين صورتهم، بوصفهم أغنياء، لكن إنسانويين يريدون تغيير العالم.
المشكلة في هذه الممارسات الإنسانويّة هي مفهوم المليونير نفسه، الناتج عن النظام الرأسماليّ، والذي يعني حكماً أن هناك من يتعرض إلى ظلم، أو استغلال، كي تغتني فئة ما على حساب أخرى. قد يكون الكلام رومانسياً هنا أو تقليدياً، لكن لا ينفي أن هذه المبادرات الحسنة التي يقوم بها المليونيريّة ليست إلا غطاء ووسيلة لصرف النظر عن "الثروة" التي يمتلكونها، فهم ليسوا إلا "أناساً طيبين مزيفين" حسب تعبير المؤلف Anand Giridharadas صاحب كتاب "الناجحون يأخذون كل شيء".
الاتهام السابق بالنفاق، أو ازدواجية الوجه، سببه الأول هو أن هناك كمية كبيرة من النقود التي يدفعها المليونيرية والأغنياء من دون أن يتغير شيء في العالم، بل وكأن هناك علاقة طردية بين ازدياد احتكار الأموال ورأس المال وبين المبالغ الهائلة التي تصرف في سبيل "تحسين العالم"، من دون أن يكون لها أثر حقيقي على طبقة بأكملها، كونها تستهدف فئات محددة تبحث عن "الاستقرار" لا الإنتاج. هذه المبادرات نراها مثلاً في المُنتجات "الحمراء" التي تسعى إلى رفع الوعي الخاص بمرض عوز المناعة المكتسب، وجعل عائدات بعض منتجات الشركات الخاصة تصبّ في سبيل تطوير علاج له. المشكلة في هذه الحملة وما يشبهها أنها تحافظ على النظام الذي يجعل الربح يتركز في يدي 0.1 بالمائة من سكان العالم، فالحملة السابقة ذاتها اتُهمت بأنها ليست إلا وسيلة لتعود الأموال لشركات الأدوية التي "تبحث" عن دواء للمرض، ولن توزعه "مجاناً" في حال وجدته.
يمكن تفسير هذه الأشكال الخيرية والجهود الإنسانية بأنها ليست إلا بروباغاندا للحفاظ على النظام الذي يرسخ الغنى والمال في يد فئة محددة تحتكر المستقبل، وتمتلك سبل النجاة من هذا العالم حين سيتداعى. فلنفكر مثلاً في إيلون موسك، في حال نجح في استعمار الفضاء، من سيسكن هناك؟ من سيمتلك المال الكافي لمغادرة الكوكب؟ ومن سيُترك في الخلف؟ أليسوا هم أنفسهم من تقام له المشاريع التنموية وتقدم لهم المُساعدات الإنسانويّة، التي تحافظ على غنى الأغنياء لكنها تجعل صورتهم أكثر "بياضاً" و"تسامحاً" من دون أن يؤثر ذلك على ثروتهم أو يقلل من فرص نجاتهم بالمقارنة مع فرص نجاة "الفقراء" التي يمكن وصفها بشبه المعدومة.
خطورة هذه الثقافة أنها جزء من السياسات النيولبيراليّة التي تركز على مؤسسة أو جماعة فقط، لا على طبقة بأكملها. وهذا ما يتضح مثلاً حين نرى مشروعاً لمكافحة التشرّد، كما فعل جيف بيزوس حين أنشأ العام الماضي مؤسسة خيرية ببليوني دولار لبناء المنازل، لكن في ذات الوقت، أجور موظفيه منخفضة ويمنعون من استخدام الحمامات. هذه السياسة تضمن تصدير صورة ناصعة، من دون أن يهدد ذلك أسلوب مراكمة الأموال والربح للشركة التي يمتلكها.

أصحاب الأموال هؤلاء يتحكّمون بمفاصل السياسة، لا فقط في الأنظمة القمعية، بل أيضاً في تلك الديمقراطية، فمارك زوكربرغ قادر (أو يمتلك القدرة) على التحكم في نتائج الانتخابات الرئاسيّة أو الدعاية السياسية في أي بلد يريد، ما يعني الحفاظ أو تشكيل حكومات لا تقف بوجه رأس المال، بل ترسخ النظام الذي ينتجه وتحافظ على احتكار الثروة، لتأتي هذه الزينة الخيرية والإنسانويّة أشبه بإعلان تشتت الانتباه عن الهيمنة الحقيقية الممارسة على الفئة "الأقل" و"الأفقر".
يندرج هذا السلاح الإنسانويّ ضمن الهيمنة الأيديولوجيّة، فهو يخلق أوهاماً عن المستقبل والتغير من دون أن يلامس الواقع. وهنا، المشكلة الرئيسيّة هي في أن الأغنياء أغنياء، ولا تتم محاسبتهم على غناهم، بل على تقصيرهم في دعم فئة ما، فالتغيير لن يحصل طالما أن هنا نظاماً وفئة لا يتعرضان للتهديد، ولا نقصد هنا فقط الضرائب والعقوبات، بل البنية ذاتها التي تتيح للأغنياء "قانونياً" تحريك أموالهم والنجاة بها، وهذا ما تقوم به أمازون مثلاً عبر تحريك مقراتها وتهديد الولايات المختلفة بنقل المقر إن لم تحصل على حسم ضريبي، فمفهوم "الجميع يربح" ليس إلا وهماً أيديولوجياً، فأن يصبح أحدهم أغنى، والأدنى تتم مساعدته للنجاة من دون أن يهدد "الغني"، يعني أن لا شيء تغيّر، بل فقط ازدادت الفجوة بين الاثنين.
المشكلة تكمن في خصخصة مشكلات العالم، وجعلها قائمة على التبرعات واتساع قلوب الأغنياء، لا مسؤوليّة الدول والحكومات التي من المفترض أن تضمن حياة مواطنيها، وهنا تأتي استفادة المليونيرية من الشكل الجديد للعالم لترسيخ رؤوس أموالهم وتنظيف صورتهم من دون أن تتهدد مكانتهم كمستفيدين من هذا النظام، ما يحوّل الدولة إلى مجرد جهاز ماليّ يساهم في مراكمة فئة للمال على حساب حياة ومتطلبات طبقات بأكملها، لا تجد وسيلة للحصول على حقوقها وتعيش تحت "رأفة" الأغنياء.
دلالات
المساهمون