لين رامزي: "إغمض عينيك في نيويورك فتشعر كأنك في الجحيم"

13 مارس 2019
لينّ رامزي: أحبّ الممثلين والجمهور (جون بول بيليسي/رويترز)
+ الخط -

منذ فيلمها الأول "صائد الجرذان" (1999)، لم تكفّ لين رامزي (1969) عن تناول مواضيع مغرقة في السوداوية: إنكار الحِدَاد في "مورفرن كالّار" (2002)، والتّنافر العائلي في "ينبغي أن نتحدّث عن كيفن" (2011)، ومخلّفات صدمة الحرب في "لم تكن أبدًا حقًا هنا" (2017).

يبدو مُدهشًا هذا التّناغم في الطرح، باعتبار أن هذه الأفلام كلّها، باستثناء الأول، مُقتبسة عن روايات. لكنّ المخرجة الاسكتلندية تؤكّد أنّ إخلاصها يذهب، أوّلا وأخيرًا، إلى الشخصيات الصادقة والجذّابة. شخصيات تسكن وجدان المُشاهد بالحدّة نفسها التي تبدو فيها مسكونة بهواجس وتساؤلات، تدفعها إلى بحثٍ وحركة دؤوبة في رحلة سعي إنساني، تلمس الأفئدة رغم تدثّرها بغطاء القسوة والعنف غالبًا.

كالسينمائيين الكبار، تكتفي لين رامزي بحبكة "مينيمالية"، تبثّ السينما في ثنايا السرد ولحظات الزمن المعلّق. إلى مهارتها الفائقة في إدارة الممثّلين، تشتغل على شريط الصوت بتركيز كبير، ولا تتردّد عن نسب ذلك إلى افتتانها، منذ الصّغر، بـ"أفلام النوع"، وبرؤية نيكولا روغ.

عن هذا، وعن أمور سينمائية أخرى، تحدّثت لين رامزي في حوارها مع "العربي الجديد"، أثناء الدورة الـ17 (30 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2018) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، الذي شاركت في لجنة تحكيم مسابقتها الرسمية.

(*) هناك إحساسٌ بالغموض في أفلامِكِ، خاصة في البداية، حيث لا نعرف أين نحن، وحيث يبدو الأمر كما لو أننا في كوكب آخر، ثم يتلاشى هذا بسلاسة حتى نبدأ فهم الأمور. كيف تحقّقين ذلك؟
ـ أحبّ روحانية الناس والشخصيات. أعتقد أنّ ما تُشير إليه يُشبه رسم خطوط أولية على لوحة بيضاء. في بداية فيلمي الأخير (لم تكن أبدًا حقًا هنا، 2017) نسأل أنفسنا: ماذا يفعل هذا الشخص؟ أهو قاتل؟ أهو انتحاري؟ أحبّ هذا الجانب المُحيِّر. أحبّ منح الجمهور وقتًا لاستيعاب الأشياء. أحبّ فعل هذا مع أفلام أشاهدها أيضًا. كأنّي أحلّ لغزًا. هذا يسمح لي أيضًا بقول أشياء متعدّدة، تُغني التصوّر حول الشخصية منذ البدء. أمور مركّبة أكثر من مجرّد فكرة جيدة، أو شيء ثابت ومحدّد.



(*) أتبحثين عن هذا في الروايات التي تقتبسينها؟
ـ لا، ليس بالضرورة. أعتقد أنّي أتطلّع إلى الإنسانية في الناس. شيء يمكنك صنع لوحة انطلاقًا منه. شخصيات مكتوبة جيّدًا. شخصيات مؤثّرة تسكن الوجدان. رواية "ينبغي أن نتحدث عن كيفن" تنتمي إلى نوع أدبي خاص، ولم تكن مرئيّة إطلاقًا. يقول الناس إنها غير قابلة لاقتباسٍ سينمائي. بالنسبة إليّ، الرواية مؤثّرة، عن امرأة لديها شكوك حول حقيقة حبّها الأمومي. هذا موضوع مثير للاهتمام، لأننا لا نصادفه كثيرًا. أيضًا جذبني الخوف الاجتماعي الذي يسكن الأم، وجانبها المظلم الذي يطفو إلى السّطح بين حين وآخر. في نهاية الفيلم، تستسلم أمام كيفن وتقول: "أنا أمك. أنا أحبّك". إنّه موضوع صعب. لكن رؤية هذه النهاية مؤثّرة.

(*) أثناء مشاهدة أفلامِكِ، لا يُمكننا أيضًا تصوّر أن يؤدّي الشخصيات ممثّلون غير أولئك الذين تختارينهم. كأنّهم وُجدوا لتأدية هذه الأدوار. هل تكتبين والممثلون حاضرون في ذهنك؟ 
ـ ليس دائمًا. بخصوص تيلدا (سوينتون)، هي الأم الروحية لابنتي. بالمناسبة، جون سي. رايلي، الذي يمثّل في الفيلم نفسه (ينبغي أن نتحدّث عن كيفن، 2011)، هو الأب الروحي لابنتي أيضًا. لم تكن لديّ أية فكرة مسبقة عندما كنت أكتب. جاءت تيلدا وقالت: "أحبّ أفلامِكِ. حقًّا، أنا مُعجبة بالموضوع". اعتقدتُ أن الأمر سيسير بشكل جيّد، لأن تيلدا استثنائية حقًا. إنها كإلهةٍ بجسدها البالغ طوله 6 أقدام. قلتُ إنها حتمًا ستُطعِّم شخصية إيفا بأصالتها.

أحبّ الممثلين. أظن أنّي أقع في حبّهم أثناء صنع الفيلم، وربّما هذا سبب "تقمّصهم" الأدوار. ينتابهم الضحك حين يشاهدوني وراء الكاميرا أقوم بنفس ما يقومون به، تمامًا كالظل. أحبّ الممثلين الذين اشتغلوا معي، وسأكون مسرورة بالعمل معهم مجدّدًا.



(*) هناك مقاربةُ اشتغالٍ على الصّوت مثيرة للاهتمام في أفلامِكِ كلّها. كيف تفكّرين في هذا الجانب من عملك؟
ـ نعم. عادة نتعلّم من كلّ فيلم مختلف. لكن، هناك شيء واحد لاحظتُه حقًا منذ صغري، وأنا أشاهد الأفلام مع والديّ، أنواع الأفلام كلّها، خصوصًا أفلام نيكولا روغ، كـ"لا تنظر الآن"، والموجة الرائعة كلّها في سينما المملكة المتحدة. بدأتُ ألاحظ كم أنّ الأصوات تشتغل في المخيّلة، وأنّ الطريقة التي تواجه بها الوعي أكثر فعالية ممّا تفعل الصورة غالبًا. تقريبًا (هذا ما حصل) في فيلمي الأخير (لم تكن أبدًا حقًا هنا)، الذي يدور حول مرحلة ما بعد الصدمة. الطريقة التي ارتأيتُها هي أن رأس هذا الرجل مليء بشظايا الزجاج المكسور، وأنّه يسمع انفجارات في رأسه طول الوقت، وكلّ شيء يبدو له خطرًا محتَمَلاً.

أثناء كتابتي السيناريو، كنتُ أعيش في قرية لم تكن فيها سيّارات. ذهبتُ إلى نيويورك، التي، عندما تُغمض عينيك فيها، تشعر كأنّك في الجحيم، أو نهاية العالم. عملت مع مصمّم صوت مذهل يدعى بول ديفيز، اشتغل أفلامي كلّها. تحدّثنا عن مقاربة الصوت فترة طويلة، بمشاركة الجميع، بمن فيهم مؤلّف الموسيقى جوني غرينوود. لم نصمِّم الموسيقى بناءً على الفيلم، فالأمر يتعلّق بالشخصية. لم نكن نشتغل بالطريقة التقليدية، التي تقتضي مشاهدة الفيلم ووضع الموسيقى بعد ذلك. كنّا نفكر انطلاقًا من الموسيقى، ثم نقرّر أماكن القطع. هذا معاكس للطريقة المعتادة.

(*) ما الجزء الذي تفضّلين: التصوير أو المونتاج؟
ـ في الواقع، يختلف الأمر بحسب كل فيلم. في فيلمي الأول ("صائد الجرذان"، 1999)، لم يعجبني التصوير لأني معتادة على مقوّمات الفيلم القصير. أحسست أنّ فريق العمل كبير جد. الأمر صعب، لأنّي أصنع فيلمًا طويلاً للمرة الأولى، وكانت المرة الأولى أيضًا لمدير التّصوير (ألوين هـ. كتشلر).

حقيقةً، أحببت تصوير "ينبغي أن نتحدّث عن كيفن" و"لم تكن أبدًا حقًا هنا"، لأنها كانت تجارب مثيرة للغاية. أعتقد أنّي أصبحت أقدِّر فترة التصوير، رغم أنها تصنع ضغطًا كبيرًا. عليك أن تستمتع بها، وتلعب اللعبة بالمرح كلّه الذي تستدعيه.



(*) وماذا عن المونتاج؟
ـ سأكون صادقةً معك وأقول إنّي أصبحت أقدّر فترة التصوير أكثر من المونتاج. أحبّ التفكير "على قدميّ". واكين فينيكس قال لي ذات مرة: "أنت جيدة جدًا حين تنحصرين في الزاوية". أنا من الذين يفكّرون في لقطة معيّنة باستمرار، 3 أيام متتالية، من دون شيء ملموس، وعندما تبدأ مرحلة التصوير، تظهر الأفكار. أنا جيّدة جدًا تحت الضّغط.

(*) أنت تحبّذين التفكير على البلاتوه.
ـ نعم. غالبًا أبدأ تصوّر الاحتمالات كلّها في ذهني. مثلاً: "هل نحن بحاجة إلى مزيدٍ من هذه اللحظة، لا من الأخرى؟". أنا لا "أغطّي" كثيرًا أثناء التصوير. أي لا أقول "دعنا نغطّي هذا المشهد بلقطة من هذه الزاوية أو تلك". أحرص على أن أكون دقيقةً تمامًا في اختيار اللقطات، وهذا ينطوي على ضغط كثير.

(*) عادة، هل تقضين وقتًا طويلاً في المونتاج؟
ـ لا. مونتاج فيلمي الأخير، كتصويره، كان سريعًا جدًا ومكثّفًا. استعنّا بالـ"ستوري بورد"، وكلّ شيء متعلق به كان ذهنيًا جدًا في الواقع. سيرورة صنعه سريعة ومتوتّرة مع واكين فينيكس، الذي التحق باكرًا بالعملية. المونتاج سريع، لكننا حاولنا، المولِّف جو بِيني وأنا، أن "نخمِّن خارج الصندوق". كنا نفكر دائمًا في رؤية الأشياء بطريقة مختلفة. اشتغل جو على أفلام وثائقية كثيرة، وبعض أفلام فيرنر هرتزوغ.

(*) أفلامُكِ متأثّرة بـ"مقاربة النوع"، وتحظى بإعجاب مجلات تُقدِّر هذه المقاربة أكثر من أخرى تتشبّث بالمقاربة الكلاسيكية.
ـ نعم. ربّما. كما تعرف، لا يمكن أن يحبّ الجميع أفلامَك. أتمنّى فقط أن أكون صادقة مع شخصياتي. أحبّ الجمهور كذلك. في الوقت نفسه، أعتقد أن مقاربة النوع شيء رائع، لأنّها تُمكِّنك من استكشاف الأحاسيس العميقة والجوانب النفسية بالاشتغال من داخل الإطار بطريقة لا يمكنك القيام بها مع فيلم كلاسيكي، وتسمح لك بإضفاء التشويق والإثارة على الفيلم. حرصت على أن يكون فيلمي الأخير انفجاريًا، وأن أجعله يتحرّك. لم أكن أريد جعل الناس يملّون. كنتُ أرغب في جعله مثيرًا وغير مُتوقّع.

(*) قلتِ إنّك كبرتِ وأنتِ تشاهدين أفلام النوع.
ـ فعلاً. أحد الأفلام المُفضّلة لي "شاينين". فيلم يبدو لوهلة أولى أنه يتعلّق بمشاكل علاقة زوجية، لكنّه يحقّق في نهاية المطاف شيئًا رائعًا.

(*) إنه كأفلامِكِ. في البداية يبدو كلّ شيء غامضًا وغريبًا، حتى الموسيقى. نسأل أنفسنا "حول ماذا يدور هذا كلّه؟".
ـ إنّه عمل عظيم، لأنه يسير في اتجاهات لا نتوقّعها. هذا ليس مجرّد فيلم رعب. هناك شيء ذهانيّ يسكنك حين تشاهده. كبرتُ وأنا أشاهد أفلامًا كثيرة لهيتشكوك ونيكولا روغ، الذي توفي مؤخّرًا. خسارة حقيقية. أعتقد أنه يجب الاحتفاء به كرائد حقيقي. هو أحد أعظم من أنجبتهم سينما المملكة المتّحدة، إلى باول بريسبرغر أيضًا. هؤلاء أناس لم يُحتفَ بهم كما ينبغي في عصرهم، ويجب أن يتمّ هذا اليوم.


دلالات
المساهمون