باخ... فن خلق الكل انطلاقاً من الجزء

28 يوليو 2019
غاية باخ الروحية بقيت ملتصقة بالهندسة المتقنة للأصوات (أرشيف)
+ الخط -
ظل يُنظر إلى باخ كعازف أورغن فذ في عصره، لكنه بدا لمعاصريه موسيقياً بالي الطراز وشديد التعقيد. ستنتظر ابتكاراته الموسيقية قرابة قرن ونصف القرن أو قرنين، لتستوعبها الفتوحات الموسيقية الغربية.

غير أن موزارت كان له رأي مختلف في موسيقى باخ عندما استمع إليها في حفل ديني حضره في مدينة ليبزغ الألمانية، عام 1789. ربما لم يكن استمع لموسيقى باخ كثيراً، أو أنها أول مرة. قال مسحوراً بالموسيقى: "إنني استمع إلى فن جديد". الأكيد أن أعمال باخ ظلت بعد رحيله مرتبطة بدوائر محدودة؛ دينية على الأرجح، من دون أن تحظى بانتشار.

في المقابل، أشاد الموسيقيون الكبار بعبقريته؛ هايدن وبيتهوفن، إضافة إلى موزارت، لكن تأثيره لم يكن جوهرياً عليهم. للأمر علاقة بتوجهاتهم؛ فمثلاً عند بيتهوفن، أصبح للتعبير الذاتي دور في الموسيقى، وهو ما كان سيبدو لباخ مُروقاً. الأخير لم ينجذب لآلة البيانو التي ظهرت أواخر حياته، وأيضا لم يهتم بالتأليف الهارموني أو التناغمي، مخلصاً للبوليفونية متعددة الأصوات.

كما أن موزارت الذي سحرته موسيقى باخ، كانت لديه أفكاره المختلفة. حتى قداسه الجنائزي، لم يحمل في أسلوبه سمات باخ، كان موزارت أكثر درامية. ورغم اقتصاده في الانفعال، سنلحظ سمات تفاعلية أوضح في قداس موزارت؛ الصعود القوي للأصوات، لم يكن ضمن التصور الروحاني أو الديني لدى باخ، أو أن موزارت بشخصيته النزقة والمتمردة خالف بعض القواعد العُرفية. بالنسبة لباخ، ظلت غايته الروحية ملتصقة بالهندسة المتقنة للأصوات، فخامة الباروك وطرازه المحتفل بالزخرف.

يقول أحد أبرز مبتكري الموسيقى اللامقامية (الاثني عشرية) شونبرغ، إنه تعلم من موزارت "فن خلق الأفكار الثانوية" مع باخ الأمر مختلف، فهو أكثر شمولية. وبحسب شونبرغ، علمه الأخير "فن خلق الكل انطلاقاً من الجزء"؛ أي "كيف يتطور اللحن من نواة واحدة".

لم تحظَ ثورة باخ الموسيقية باهتمام كثيرين، والتي ربما كانت المقابل لثورة نيوتن الذي عاصره في فترة من حياته. فالتجريد الموسيقي يجعله غير مُتاح نظرياً، وحتى لا نلصق بباخ الجمود السكوني في بناء القوالب. يمكننا القول إنه ليس هناك مؤلف موسيقي جمع بين الإبداع الفني والفكر الموسيقي كما فعل. ربما كان موسيقيو القرن العشرين، مثل سترافنسكي وشونبرغ وبارتوك، يمتلكون نزوعاً فكرياً مماثلاً، لكنهم أقل ابتكاراً في الإبداع الموسيقي والرؤية.

تتمتع موسيقى باخ ببنية شديدة التماسك والوحدة. لا يعني أنها سمات لا نجدها لدى عباقرة الموسيقى الآخرين؛ لكنها مع باخ اتخذت شمولاً غاليليانياً. فالعلامات الموسيقية تتصاحب كعلامات رياضية، بحيث تنطلق في بناء هندسي، وتتآلف الخلايا اللحنية في حركة مستمرة، كما لو كانت مشدودة دائماً إلى الثيمة أو المركز. فعوامل التضاد تصبح نغمات تتكئ على أخرى، وكأن كل شيء لم يأت من مصادفة. مع هذا، ظل باخ أحد أبرز المرتجلين في الموسيقى، وعبقري الزخرف أو الأرابيسك، كما وصفه الفرنسي كلود ديبوسي.

تماشياً مع الروح الرومانتيكية، تجاهل الألماني مندلسون الزخارف عندما قاد عرضاً لعمل باخ الفذ "آلام المسيح بحسب القديس متى"، عام 1829. يظل الزخرف جانباً أصيلاً في موسيقى الباروك. سيتكرر تجاهل الزخرف، عندما شكّل رومانتيكيون كبار، مثل ليست وشومان وآخرين، جمعية باخ، وبدأت بتقديم أعمال باخ للجمهور في أول ذكرى مئوية لرحيله، أي عام 1850، سعياً منهم بانتشال موسيقي عظيم من النسيان المجحف.

غلب على موسيقى باخ الجانب الديني، لكنه ضمّنها الكثير من الألحان الدنيوية. كما أن أعمالاً قليلة له لم تشمل قالب الفوجة. وعندما واتته الفرصة، ألّف موسيقى دنيوية، مثل عدد من سوناتاته وكونشيرتاته، وأهمها كونشيرتات براندبرغ، إلى جانب عمل بعنوان "الكلافر المُعدل". وهي موسيقى تعليمية تنقسم إلى كتابين يشملان 48 لحناً من جميع المقامات، واتسمت بتراكيب مبهرة. لا ننسى فوجاته وكانتاته، إضافة إلى "الآلام، بحسب متى ومرقص"، وقدّاساته وتواشيحه الدينية.

ثمة عمل غير مكتمل بعنوان "فن الفوجة" وفيه يضع احتمالات عديدة للفوجة، بحيث يعتمد في كل قسم (يشمل 19 جزءاً) نفس اللحن لكن بأسلوب فوجة مختلف؛ كما لو أنه أراد القول بوجود احتمالات لا نهائية، ليس للفوجة فقط، بل أيضاً للنظام الموسيقي؛ الذي أصبح مع باخ أقرب الفنون إلى النظام الكوني.

المساهمون